لا تنشر هنا

الصحفي زهير الداودي يكتب: سؤال “وزراء سيادة” في القطاعات الإجتماعية؟

زهير الداودي

لا يمكن للمتتبع إلا أن يشيد ويحيي عاليا الموقف المشرف جداً الذي أبانت عنه الدولة المغربية، من خلال تصريح وزير الشؤون الخارجية والتعاون الدولي في ندوة صحافية مشتركة مع نظيره الأردني، عقب اختتام زيارة صداقة وعمل قام بها عاهل الأردن الملك عبد الله الثاني إلى بلادنا بدعوة من أخيه الملك محمد السادس (27 و28 مارس 2019).

الموقف المشرف جداً تجلى في التأكيد على استقلالية صناعة واتخاذ القرار السيادي الوطني، فالممكلة قررت، منذ اعتلاء جلالة الملك محمد السادس عرش أسلافه المنعمين، أن تنأى بنفسها عن الشقاقات والمهاترات والخلافات غير المؤسسة، وأن تبني سياسة خارجية أساسها مراعاة المصلحة الوطنية أولاً، وعدم محاباة طرفٍ على حساب طرفٍ آخر وإن تعلق الأمر بدول شقيقة وصديقة يجمعنا بها ما هو أسمى من المصالح الإقتصادية والمالية.

إن السياسة الخارجية المغربية يهندسها ويقودها ملك البلاد إستنادا إلى صلاحياته الدستورية، وكل الفضل يرجع إليه في ما وصلت إليه بلادنا من مكانة محترمة بين الأمم، حيث أصبح يُضْرَبُ الحساب لمواقف الرباط. ولم يعد المنجمون يتوقعون ما سيكون عليه رد فعل المغرب إزاء تطورات الأحداث الإقليمية والجهوية والقارية والدولية، فتحية إلى مَنْ جعل من دولتنا بلداً مستقل القرار يدافع عن مصالحه دون تغييب لمصالح حلفائه وأشقائه من الدول العربية والإسلامية كيفما كان حجمها وتأثيرها.

لكن، وأخذا بعين الإعتبار لهذه المكانة الوازنة التي أصبحنا نتبوأها بفضل جهود جلالة الملك، دون إغفال دور بعض الوطنيين والمخلصين الحقيقيين الذين لا يألون جهداً في مواكبة هذه الدينامية الداخلية والخارجية، نسجل في المقابل وجود مؤشرات داخلية سلبية جداً لا تخطئها العين، ولا تخدم إطلاقاً الدينامية الملكية، وهو موضوع نعود إليه بالتفصيل بعدما أشرنا إليه في مقالنا المنشور يوم 9 مارس 2019 في موقع “الدار” بعنوان “عن الجزائر وحراكها.. وأمور أخرى”.

نقول هذا على خلفية ما لوحظ خلال العامين الماضيين من انفلات ناتج عن سوء تدبير ملفات حساسة ذات طابع إجتماعي بالخصوص، مما أدى إلى انعكاسات سلبية داخلية وخارجية أعطت صورةً خاطئةً عن المغرب، لا لشيء سوى أن مَنْ كلفوا بتدبير هذه الملفات تعوزهم الخبرة والحنكة وحس المسؤولية والحكمة وحس تقدير الأمور بالشكل الصحيح وفي الوقت المناسب.

لسنا هنا لجلد الذات أو لتعداد مساوئ فلان أو علان، بل إننا نناقش حصيلة مدبري هذه الملفات الإجتماعية، فمنطوق الدستور يقول إنهم يحملون صفة “مسؤولين”، وبالتالي فهم يُسْأَلُونَ عما قدموا لهذه البلاد، وعن مدى نجاحهم أو فشلهم في المهام التي كلفوا بها، بعد الثقة التي حظوا بها من أعلى سلطة في الدولة.

هذه السلطة التي جعلت شعار حكمها النهوض بالقطاعات الإجتماعية ورد الإعتبار لكرامة المواطن المغربي من خلال إطلاق مبادرات حقيقية كثيرة غطت التراب الوطني وتجاوزته إلى ما هو قاري وعربي، وآخرها إعطاء جلالة الملك تعليماته لإقامة مركز للتكوين/التأهيل المهني في المملكة الأردنية الهاشمية في تخصصات مرتبطة بقطاعات السياحة والصناعات الغذائية والبناء والأشغال العمومية.

مع الأسف، كان من المفروض أن توازي هذه المبادرات الملكية مبادرات حكومية تعطي للبعد الإجتماعي ما يستحقه من اهتمام خدمة لاحتياجات المجتمع. كان يفترض أن تنفذ إجراءات وتدابير قطاعية يسهر عليها وزراء يديرون ملفات ثقيلة كالتربية الوطنية والتكوين المهني والصحة والسكن والتشغيل.

إن جل ما يصلنا من أخبار عن هذه القطاعات لا يعدو أن يكون نتاج كوارث حقيقية على مستوى النتائج، فمن إضرابات تكاد لا تتوقف واحتجاجات على قرارات ارتجالية غير محسوبة العواقب إلى فضائح تكون أحياناً شخصية وتؤثر أَيَّمَا تأثير على أسلوب تدبير وتسيير الوزير نفسه، إذ كيف يمكن أن تَأْتَمِرَ أطر عليا بقرارات وزير ترك جلسة عمل رسمية لِيَتَسَامَرَ على كؤوس الجعة والنبيذ المعتق؟ أو من كانت صوره تحتل مكانة بارزة في الصفحات الأولى للصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية، وهو في وضع يقال إنه لا يتماشى و”شَيْبَتَهُ” وما يدعيه من مبادئ وقيم؟ أو كالذي جعل من برنامجه الوزاري “تَبْلِيصَ” من يعتبرهم “رِفَاقَهُ” و”أَسَاتِذَتَهُ” على رأس مديريات مركزية وجهوية وإقليمية، ومنهم من أُعْفِيَ لأسباب ما، ومنهم من لا تتوفر فيه شروط الكفاءة والمهنية والإستحقاق اللهم إلا ما ذُكِرَ من قرابات حزبية ومحسوبية وعلاقات زبونية…

من أراد أن يرد الجميل لشخص ما، عليه أن يفعل ذلك بعيداً عن الشأن العام وأن يعطيه من جيبه إن استطاع، ولا يزيد على المواطنين أعباء الحياة بفرض رسوم ومصاريف على طلبة الجامعات كما حصل لوزير كان رئيس جامعة، ويشهد موقع (YouTube) على شكواه وصراخه كَأَبٍ متضررٍ من زيادة ألف أورو فرضتها البعثة الثقافية الفرنسية على التلاميذ الذين يدرسون في فصولها.

كما سبق وقلنا، لسنا هنا لتعداد الأخطاء القاتلة وانعدام الكفاءة لدى من يسيرون قطاعات ببعد إجتماعي، بقدر ما نحاول أن نضع الأصبع على مكامن الداء في تسييرهم، وأيضا لسنا لا بصدد شخصنة هذه الإنحرافات وغياب حس المسؤولية، ولا بصدد تحميلهم المسؤولية وحدهم عما آلت إليه الأوضاع في الوزارات التي يدبرون شؤونها، ولا حتى تحميل من رشحهم من أحزاب سياسية أصبحت تمارس كل شيء عدا السياسة وتأطير المواطنين والمساهمة في تهييء النخبة القادرة على تسيير الشأن العام.

إن التسيير الناجح لمؤسسة عمومية أو وزارة لا يكون من خلال الحرص على الظهور بربطة عنق متناسقة الألوان، ولا بابتسامة صفراء على شاكلة النموذج الأمريكي والظهور بمظهر “play boy” وشراء مساحات إعلانية مقابل تلميعٍ “إخباري” لصورة لا تُلَمَّعُ أصلاً، ووضع العربة أمام الحصان. إن التسيير الناجح يتجسد في اتخاذ الإجراءات العملية والمدروسة بقصد النهوض بالقطاعات الإجتماعية.

وأمام هذا العجز الواضح في المبادرات من طرف هؤلاء الوزراء، أصبح جلالة الملك محمد السادس مضطراً لتوجيه الحكومة في كل مرة بعد أن يستفحل الفشل و”البلوكاج” في جسد التسيير الحكومي من جراء عدم اعتماد مخططات وبرامج من شأنها أن ترقى بقطاعات يُعَوِّلُ عليها المغاربة أَيَّمَا تعويل بهدف تحسين مستوى أوضاعهم الإجتماعية.

والمصيبة أنه ورغم التعليمات والتوجيهات الملكية لمن يشرفون على هذه القطاعات، إلا أن ردة فعل هؤلاء الوزراء تكون دون المستوى ومحبطة في كثير من المناسبات، وهذا بشهادة شاهد من أهلها وهو مولاي حفيظ العلمي، وزير التجارة والإستثمار والصناعة والإقتصاد الرقمي، الذي كشف وفق خبر نشرته يومية “المساء” يوم 29 مارس 2019 عن “معطيات مثيرة حول رفض الملك محمد السادس مرتين مقترحات الحكومة لتطوير العرض المقدم في مجال التكوين المهني، بينما تنتظر الحكومة مآل المقترح الثالث الذي تم وضعه، حيث أكد الملك على ضرورة اعتماد مقاربة واقعية في وضع برنامج تأهيل عرض التكوين المهني وتجديد الشعب والمناهج البيداغوجية”، هذا دون الحديث عن جلسة العمل التي خص بها جلالة الملك رئيس الحكومة ووزيره في الصحة، وذلك بهدف ضبط خريطة طريق ناجعة تهم إصلاح القطاع الصحي المتدهور بشكل كبير منذ مدة طويلة.

ونحن على أعتاب انقضاء نصف الولاية التشريعية، فإننا نؤكد أن استمرار مثل هذه الزلات والأخطاء قد يؤدي – لا قدر الله – إلى ما لا تحمد عقباه، وصار من الواجب تقويم هذا الخلل القاتل الناتج عن غياب المهنية والحنكة واستمرار التخبط والإرتجالية في اتخاذ قرارات مصيرية. وهذا الخلل، بدون شك، يهدر الأموال العمومية ويلطخ صورة المغرب الذي ما فتئ جلالة الملك يحرص على أن تبقى نقية بحكمة وتبصر ومهنية.

إن الأمن، بمفهومه الشامل في المغرب، لا يقتصر على السلامة الجسدية وحماية الممتلكات والحدود، بل يتعداه إلى الأمن الإجتماعي الذي يرتكز على توفير مستوى معيشي للمواطنين قوامه الكرامة والولوج المعقول للخدمات العمومية من صحة وتعليم وتشغيل وسكن لائق، وليس بتقديم مخططات فارغة واعتماد سياسات محاباة وزبونية ومحسوبية، والظهور بمظهر الوزير الأنيق والبشوش.

الجواب يكمن في “وزارات كرامة”

لهذا كله، نرفع الصوت عاليا ونقول إنه صار لزاماً العمل على ترقية الوزارات ذات الوزن الإجتماعي الكبير إلى “وزارات سيادة” أو “وزارات كرامة” يُعَيَّنُ على رأسها رجال – ليس بالمفهوم الذكوري – بكفاءات عالية وتجارب محترمة أثبتوها بتدبيرهم الناجح لقطاعات مماثلة بعيداً عن المجاملة الحزبية والشخصية. ومن حق المغاربة التوفر على وزراء يسارعون الخطى من أجل إصلاح عميق ومنظور الأثر على مستوى كل تراب المملكة. وزراء يواكبون مبادرات جلالة الملك ويجتهدون، بلا كلل أو ملل، في تنزيلها التنزيل الصحيح، وليس همهم جني منافع معدودة وتقاعد غير مستحق يقيهم، في نظرهم، نوائب الدهر بعد أن يُفرقُوا صاغرين عن الكراسي التي جلسوا عليها دون وجه حق، اللهم إلا علاقة مصلحية مع “زعيم سياسي”، أو بدعم من “امرأة نافذة” في حزب ما، أو ضرورة دعم ل”أخٍ ما”، أو بسبب رفض شخصيات لحقيبة وزارية اعتبروا أنه تَلْزَمُهَا ما يَلْزَمُهَا من الشروط للنجاح في تسييرها.

في الدول التي يحترم المسؤولون أنفسهم، قبل احترام الإرادة الشعبية والمقتضى الدستوري المتعلق ب”ربط المسؤولية بالمحاسبة”، فإن مَنْ فشل في القيام بمهامه يُقْدِمُ على الإستقالة برأس مرفوعة ويترك المجال لأهل الإختصاص كي يأخذوا فرصتهم لخدمة المجتمع. وآخر مثال واضح على “ربط المسؤولية بالمحاسبة”، هو الإستقالة الطوعية والشجاعة لرئيس وزراء فنلندا، يوها سيبيلا، يوم الجمعة 8 مارس 2019 بعدما فشل في إقرار برنامج إصلاحات إجتماعية وإصلاحات لنظام الضمان الصحي، وهي إستقالة طالت أعضاء حكومته (يمين الوسط).

لن نقول لوزرائنا الفاشلين اقتدوا باستقالة رئيس الوزراء الفنلندي، وانصرفوا بما تبقى لكم من كرامة، لأننا نعلم علم اليقين أنه تعوزهم الشجاعة والمروءة للإقدام على الإستقالة، هذا دون ذكر خسارتهم لذلك المعاش السمين الذي يحلمون به منذ أمد طويل، بل ندعو إلى إعفاء هؤلاء وتعويضهم بوزراء أكفاء يكونون في مستوى تطلعات ملك وشعب بعيدا عن الإنتماء الحزبي وأمور أخرى.

ونحن، مع ذلك، لسنا ممن يدعون إلى إلغاء دور الأحزاب أو تهميشها، بل نؤكد على ضرورة تبوأ المناضلين المكانة التي يستحقونها بعد إعدادهم وتأهيلهم ليصبحوا ساسة حقيقيين همهم مصلحة المجتمع والإجتهاد في خدمته، وليس الإستخفاف بمصير المواطنين. وفي هذا السياق، نُذَكِّرُ بأن ملك البلاد يؤكد – مراراً وتكراراً – على أهمية وظائف وأدوار الهيئات الحزبية في الحياة العامة، بل إنه طالب بترقية الدعم العمومي المخصص لها، علما بأن جلالته انتقد في كثير من خطبه السابقة الجمود الذي يسيطر على أداء الأحزاب، ودعا إلى تحديث آليات إشتغالها وتمكين الشباب من تقلد مناصب المسؤولية ورعايتهم لتسلم المشعل في إطار ديموقراطية داخلية تفرز تداولاً طبيعياً على قيادة الأحزاب.

إلى ذلك، مرحباً ب”وزراء سيادة” و”وزراء كرامة” في القطاعات الإجتماعية وفي مقدمتها الصحة والسكن والتعليم والتكوين المهني والتشغيل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المثمر
زر الذهاب إلى الأعلى