لا تنشر هنا

في المجتمع اللائق: الكرامة أولاً

حسن أوريد

قبل ثماني سنوات زمجر الشارع العربي، فيما سمّى بالربيع العربي، وحملت مطالبه، ضمن ما حملت، التوزيعَ العادل للثروة، وفصْل السلطة، أو التوزيع العادل للسلطة، في الثنائية، “لا للاستبداد، لا للفساد”، وعبّرت الجماهير عن ذلك من خلال رفعها لقيم الحرية والعدالة والكرامة، وهذه الأخيرة هي الشرط الأساسي لتحقيق ما يسميه البعض بالمجتمع اللائق.

والمجتمع اللائق مصطلح حديث يتجاوز الثنائية، التي عرفتها أوربا ما بين العدالة والحرية والتوزع بينهما، أو محاولة التوفيق بينهما، وذلك بربطهما بالكرامة.

تذهب أغلب الاتجاهات الفكرية حالياً إلى تلازم الحرية والعدالة، أي أنه لا يمكن تحقيق حرية الأفراد و المجتمعات من دون عدالة وإلاّ صارت “الحرية” شِرْعة غاب، يفرض فيها القوي نظرته على الضعيف، ويلتهم الحوت الكبير الحوت الأصغر، وقد نحَتَ العالم السياسي الأمريكي جون راولس في كتابه المرجعي “نظرية العدالة”مفهوم العدالة التشاركية التي من دونها لن تتحقق الحرية بتمتيع فئات المجتمع جميعها بما يضمن حاجاتها الضرورية، لكنّ التفكير الحديث يذهب أبعد من الحرية والعدالة إلى الكرامة، مع ما يقترن بها من واجب الاعتراف، للأفراد والجماعات، في حدّ ذاتهم، وكحاملي ثقافة، وأصحاب مطالب مشروعة.

 اقترن شعار الكرامة، في سياق “الربيع العربي”، بمطلبي الحرية والعدالة، لكن لمن تكن الأسبقية؟

الثابت هو أن إنسانية الإنسان، أو كرامته، سابقة على الحرية وعلى العدالة، ولو انطلقنا من الواقع، لوجدنا أن ما يستحث الأفراد والجماعات هو توقها للكرامة، بل استرخاص حيواتها من أجلها، ونُفورها مما يُسمّى في الجزائر والمغرب بـ”الحكرة” أي الاحتقار.

لم يفرز الفكر في العالم العربي اجتهاداتٍ تحيط بهذه المطلب. نحت الفكر الغربي مصطلح المجتمع اللائق للإحاطة بمطلب الكرامة، واعتبر أن هناك شروطاً إيجابية أو ماديةً من شأنها تحقيق الكرامة مرتبطة بالحاجات الضرورية للمواطنين، من سكن لائق وصحة وتعليم، ومنها شروط سلبية أو نفسية، أي عدم تعريض الشخص أو جماعة ما للامتهان أو الاحتقار.
ترى تلك الاجتهادات أن “المجتمع اللائق” أسبق من “العدالة التوزيعية”، تظلّ العدالة التوزيعية مثالاً وأفقاً، في حين أن مطلب المجتمع اللائق، الذي من شأنه صيانة الكرامة شرط سابق، تنطلق تلك الاجتهادات من ضرورة صيانة كرامة الإنسان أولاّ، للانتقال به إلى العدالة والحرية، لا يمكن طبعاً تجزيء هذه المطالب، ولكن الكرامة تعتبر الأساس أو القاعدة التي تنبني عليها القيمتان الأُخريان.

إنسانية الإنسان، أو كرامته، تتحقق بعدم التعامل معه، فرداً أو جماعة، بصفته شيئاً، أو عبداً، وأشكال العبودية تطورت، أو آلة، أو مجرد مستهلك يضبطه السوق، أو إنساناً من الدرجة الثانية، في الأشكال المتنوعة والمتطورة للأبارتيد، إما بشكل فجّ، كما في النظام السابق لجنوب أفريقيا، أو بأشكال مستترة من خلال تمييز ثقافي أو عقدي، أومن خلال القدرة الشرائية.

إنسانية الإنسان تستلزم عدم استغباء “الرعاع”، أو زعم التفكير محلّها، ما من شأنه أن يحقق مصلحتها، مما تزعمه الأوليغارشيات. إنسانية الإنسان، أو كرامته، تستلزم احترام ما يشكل ذاتية ويقترن به، وعدم الإزدراء به، سواء من حيث ثقافته، أو عرقه، أو لسانه، أو لونه، أو عقيدته، فردا أو جماعة.
وبقدر ما تتحدث الاتجاهات التي تنطلق من العدالة عن التوزيع العادل للثروات، ينطلق الاتجاه المنادي بالمجتمع اللائق من التوزيع العادل للرموز، أي أن تجد كلّ فئة ذاتها في الرموز المُحتفىَ بها ولا تشعر بالإقصاء.

غلّبت النخبة التكنوقراطية في العالم العربي، تحت تأثير النيو ليبرالية الجديدة، الفعالية على العدالة الاجتماعية، وأزْرت بالحرية من خلالها تواطئها مع أنظمة بوليسية وتوجهات أمنية، واعتبرت “الخبز” أول الحريات، مثلما قال الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك مدافعاً عن نظام ابن علي، ومع ترنُّح موجة النيو ليبرالية لم تجد النخبة التكنوقراطية بُدّاً من المقاربات الأمنية، للالتفاف على مطالب الحرية والعدالة والكرامة، وكان حريّا بها أن تراجع ذاتها، وتصيخ إلى تموّجات مجتمعاتها وتحسن الإصغاء وتجنح إلى الحوار عوضَ أن تركب رأسها.

حينما يُنزع شخص ما أو جماعة ما من كرامته أو كرامتها، وحينما لا يؤخذ بعين الاعتبار خصوصيته ولا يُعتنى برموزه، مهما بُذل له من “أفضال” مادية، لا شيء يمنع أن تثور العناصر الحية من تلك الجماعات؛ لأن مطلب الكرامة سابق على الحرية والعدالة، وهو الأمر الذي يُجلّيه المتنبي في هذه الحكمة المأثورة :

غير أن الفتى يُلاقي المنايا .. كالحاتٍ ولا يُلاقي الهوانا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المثمر
زر الذهاب إلى الأعلى