جديد24

من الاحتجاج الرقمي إلى معركة الوعي: قراءة في الحراك الجيلي المغربي واليقظة الوطنية

بقلم: د. امحمد اقبلي

ملخّص

تهدف هذه المقالة إلى تقديم قراءة تحليلية معمقة للحركات الاحتجاجية التي يشهدها المغرب في ظلّ التحولات الجيلية وتكثّف الحضور الرقمي للشباب. تنطلق من فرضية أساسية مفادها أنّ تراجع الوساطة السياسية التقليدية، وضعف الخطاب الحزبي والنقابي، خلق فراغًا ملأه وعي جيلي انفعالي متأثر بالمنصات الرقمية وبالمدّ الإعلامي العالمي.

هذا الوعي الجديد، رغم صدق نواياه الاجتماعية، يظل هشًّا سياسيًا وسهل الاختراق من قبل القوى الأجنبية التي تتقن اليوم هندسة الرأي العام عبر تقنيات “التلاعب الرقمي” وصناعة الرموز الاحتجاجية.

وتحاول المقالة تفكيك هذا المشهد المركّب بين العفوية والمناورة، مبرزةً الرهانات الجيوسياسية المحيطة بالمغرب، وداعيةً إلى يقظة وطنية متوازنة تحافظ على حرية التعبير دون التفريط في الاستقرار والسيادة الوطنية.

الحراك الجيلي الجديد: بين العاطفة السياسية والفراغ التنظيمي

شهد المغرب في السنوات الأخيرة بروز حراك اجتماعي تقوده فئات شابة تنتمي إلى ما يُعرف اصطلاحًا بـ«جيل زد»، وهو جيل متصل بالعالم الافتراضي أكثر من ارتباطه بالبنيات السياسية والمؤسساتية التقليدية.

يمارس هذا الجيل السياسة باعتبارها تجربة وجدانية وجمالية بقدر ما هي التزام مدني، حيث تُمارَس المواقف عبر الصورة والهاشتاغ والمقطع القصير أكثر من النقاش المؤسسي أو الانخراط الحزبي.

هذه الظاهرة تعبّر عن تحوّل عميق في أنماط التعبئة السياسية، حيث صار الفضاء الرقمي بديلاً للشارع، والمجتمع الافتراضي بديلاً للمؤسسات، والشعور الفوري بالاحتجاج بديلاً للتفكير المبرمج في الإصلاح.
لكن هذا التحول يحمل خطرًا مزدوجًا: من جهة يعبّر عن طاقة اجتماعية حقيقية يمكن أن تجدد الحياة العامة، ومن جهة أخرى يهدد بتفكيك الرؤية الجماعية حين يغيب التأطير الفكري والمؤسساتي، وحين تتحول العاطفة السياسية إلى رد فعل لحظي غير مؤسس على وعي نقدي أو مشروع بديل.

إنّ الحراك الجيلي المغربي يعكس تعطشًا للعدالة الاجتماعية والكرامة، لكنه يكشف في الوقت نفسه عمق الأزمة التي تعيشها وسائط التنشئة السياسية، إذ لم تعد الأحزاب ولا النقابات قادرة على مواكبة تطلعات الشباب أو ترجمة مطالبه إلى برامج قابلة للتنفيذ.

وهنا تبرز المفارقة: جيل يحتج أكثر مما يفكر، ومؤسسات تفكر أكثر مما تصغي.

من الرومانسية الثورية إلى هندسة الفوضى

يصعب فهم بعض مظاهر الاحتجاج الراهنة دون استحضار التحول العالمي في أساليب التأثير السياسي والإعلامي.

لقد أصبحت “هندسة الفوضى” إحدى أدوات الصراع المعاصر، تُدار عبر المنصات الرقمية والرموز البصرية والتعبئة العاطفية، دون الحاجة إلى المواجهة المسلحة.

وتقوم هذه الميكانيزمات على مراحل متكررة: خلق حالة رمزية موحِّدة (شعار أو حدث صادم)، تضخيم إعلامي متزامن، ثم تحفيز الشارع نحو الفعل المباشر تحت غطاء المطالب الاجتماعية المشروعة. وعند بلوغ الذروة، يُقدم التدخل الخارجي باعتباره “ضرورة إنسانية”.

استُخدمت هذه المقاربة في عدد من الدول لتغيير أنظمتها وإعادة رسم تحالفاتها، مستندةً إلى هشاشة البنية السياسية الداخلية وضعف النخب الوسيطة.
وفي الحالة المغربية، يظهر التركيز الإعلامي الدولي على الأحداث الداخلية بشكل لافت، مقابل تجاهل اضطرابات أشد في بلدان أخرى. كما يُلاحظ استغراب بعض المنابر الغربية لنجاحات المغرب في بناء موانئه وأساطيله ومنشآته الرياضية، وكأنّ الصعود المغربي في ذاته بات مقلقًا لبعض القوى التي تسعى إلى كبح مساره التنموي.

الاستهداف هنا لا يتعلق بالمطالب الاجتماعية، بل بإعادة هندسة صورة المغرب وتوجيه النقاش الداخلي نحو التشكيك في إنجازاته. المعركة لم تعد في الشارع، بل في الفضاء الرمزي والمعرفي الذي يصوغ الرأي العام.

الرهان الوطني في زمن التلاعب الرقمي

يُسجَّل للمغرب أنّه تعامل مع موجات الاحتجاج بقدر من التوازن والمسؤولية، إذ لم يلجأ إلى الأساليب العنيفة المفرطة كما في تجارب دول أخرى، بل ظلّ تدبير الفضاء العام في حدود القانون.
ومع ذلك، برزت سرديات خارجية مغرضة تتحدث عن “قمع” و“اعتقالات جماعية”، مستندةً إلى مصادر رقمية مجهولة أو منظمات ذات أجندات سياسية.
التحدي الحقيقي اليوم هو حرب الإدراك: كيف نحمي وعي المواطن من التضليل الممنهج؟ وكيف نحافظ على الانفتاح دون السماح للمنصات الأجنبية بصياغة الوعي الوطني؟

إنّ الرهان الوطني لم يعد يقتصر على الأمن الميداني، بل يمتد إلى الأمن الرمزي والمعرفي. فالمعركة ضد التلاعب الإعلامي لا تُكسب بالردود، بل ببناء سردية وطنية متماسكة تشرح وتستبق وتقنع.

ويقتضي ذلك إعادة هيكلة الإعلام العمومي، وتشجيع البحث العلمي في مجالات الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات والدبلوماسية الرقمية، كي يتحول المغرب من مستهلك للمعنى إلى صانع 

نحو يقظة وطنية جديدة

تحتاج المرحلة الراهنة إلى يقظة جماعية تتجاوز الدفاع إلى المبادرة، عبر مشروع وطني يرسخ الثقة بين المواطن والدولة.

تبدأ هذه اليقظة بتجديد الخطاب السياسي والنقابي، وإعادة الاعتبار لمؤسسات الوساطة، وتعميم التربية الإعلامية في المدارس لتكوين جيل قادر على التحقق من المعلومة وممارسة التفكير النقدي.

كما تتطلب سياسة تواصل استباقية تشرح للرأي العام المحلي والدولي أبعاد المشاريع الوطنية الكبرى وتواجه التضليل بالشفافية.

لقد أصبحت السيادة متعددة الأبعاد: ترابية، اقتصادية، معرفية، ورقمية. والدولة التي تفقد سيادتها الرقمية تفقد قدرتها على حماية وعي مواطنيها من الاختراق.

لذلك فإنّ بناء مناعة فكرية وثقافية بات ضرورة وجودية لاستمرار النموذج المغربي في الإصلاح والتنمية.

فالأوطان تُحمى بالعقول قبل الحدود، والوعي هو الحصن الأخير للسيادة.

خاتمة

ما يجري في المغرب ليس أزمة عابرة، بل لحظة وعي تاريخية تختبر نضج المجتمع والدولة معًا.

إنّها فرصة لتحويل الغضب إلى وعي، والاحتجاج إلى اقتراح، والانفعال إلى مشروع وطني متزن.
فحين يصبح الوعي سلاحًا، تتحول اليقظة إلى واجب وطني.

الدفاع عن الوطن لا يعني الصمت، بل التفكير النقدي المسؤول الذي يوازن بين الحرية والنظام، وبين النقد والانتماء.

إنها معركة الوعي، ومن يكسبها يملك المستقبل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المثمر
زر الذهاب إلى الأعلى