الجيل الجديد من البرامج التنموية الترابية المندمجة بالمغرب: من الرؤية الملكية إلى تنزيل العدالة المجالية

إعداد: الدكتور امحمد أقبلي
رئيس جماعة أجلموس
شهد المغرب خلال العقود الأخيرة إطلاق العديد من المبادرات التنموية الهادفة إلى تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وتقليص الفوارق المجالية. ورغم ما تحقق من إنجازات على مستوى توسيع البنية التحتية وتعزيز الخدمات الأساسية، فإن بعض المناطق لا تزال تعاني من تأخر في الاستفادة من ثمار التنمية، مما أفرز اختلالات واضحة في العدالة المجالية. في هذا السياق، جاءت التوجيهات الملكية السامية، خاصة في خطاب العرش لسنة 2025 وخطاب افتتاح البرلمان في أكتوبر من نفس السنة، لتدعو إلى اعتماد مقاربة جديدة في التخطيط التنموي الترابي. فقد شدد صاحب الجلالة الملك محمد السادس على ضرورة إطلاق جيل جديد من البرامج التنموية الترابية المندمجة يقوم على نهج تشاركي وشامل، يضع المواطن واحتياجاته المحلية في صلب العملية التنموية.
تأتي هذه الدينامية في سياق سياسي ومؤسساتي يتسم بتفعيل ورش الجهوية المتقدمة وتعزيز اللامركزية. كما تتقاطع مع توصيات النموذج التنموي الجديد 2021 الذي نادى بضرورة إحداث تحول استراتيجي نحو تنمية مندمجة ومستدامة تراعي خصوصيات المجالات الترابية. وعليه، يُنظر إلى الجيل الجديد من البرامج التنموية الترابية كحلقة جديدة ومتكاملة ضمن جهود المملكة لتحقيق تنمية متوازنة تشمل جميع المواطنين والمجالات، عبر توحيد جهود الفاعلين حول رؤى محلية واضحة ومشاريع ذات أثر ملموس.
الإطار المفاهيمي
يشير مفهوم برامج التنمية الترابية المندمجة إلى خطط ومبادرات تنموية شمولية تُعتمد على مستوى مجال ترابي معين (جهة، إقليم أو جماعة)، وتهدف إلى تحسين الأوضاع المعيشية لسكان ذلك المجال عبر مجموعة من المشاريع المتناسقة والمتكاملة في مختلف القطاعات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية. تتميز هذه البرامج بطابعها المندمج، أي أنها تتجنب المقاربات القطاعية المنعزلة وتتبنى منظورًا ترابيًا تكامليًا يوحّد جهود مختلف المتدخلين ضمن رؤية تنموية موحدة.
إن الحديث عن جيل جديد من هذه البرامج يعني أنها تختلف نوعيًا عن البرامج التنموية السابقة سواء من حيث الفلسفة أو المنهجية. فالتوجيهات الملكية أكدت على أن ترتكز هذه البرامج الجديدة على تثمين الخصوصيات المحلية لكل منطقة، وتعزيز نهج الجهوية المتقدمة ومبدأ التكامل والتضامن بين المجالات الترابية. كما شددت على ضرورة توحيد جهود مختلف الفاعلين حول أولويات واضحة ومشاريع ذات أثر ملموس بدل تشتت المبادرات.
السياق السياسي والمؤسساتي
يأتي تبني الجيل الجديد من البرامج التنموية الترابية في المغرب ضمن سياق يتسم بإرادة عليا لإعادة توجيه الجهود التنموية لمعالجة الاختلالات المجالية والاجتماعية. فقد أشار الملك محمد السادس في خطبه الحديثة إلى اتساع فجوة التنمية بين مختلف المناطق، مؤكداً ضرورة إحداث نقلة حقيقية في التأهيل الشامل للمجالات الترابية.
أما على المستوى المؤسساتي، فإن إطلاق هذا الجيل الجديد تم في خضم تفعيل ورش الجهوية المتقدمة الذي أسس له دستور 2011. فالقوانين التنظيمية للجماعات الترابية لسنة 2015 منحت الجهات اختصاصات واسعة في إعداد برامج التنمية الجهوية، غير أن التجربة أبانت عن محدودية أثرها بسبب ضعف القدرات المحلية ومحدودية التنسيق المؤسساتي. الأمر الذي استدعى تدخل وزارة الداخلية لتأطير المقاربة الجديدة وتوحيد الرؤية الترابية.
كما شهدت السياسة المالية للدولة تحولًا لدعم هذا التوجه، حيث تم إدماج التنمية الترابية المندمجة كأولوية في مشروع قانون المالية لسنة 2026، عبر تخصيص موارد مالية مهمة للجهات من أجل خلق فرص الشغل وتقليص الفوارق المجالية، مع إحداث برنامج خاص بغلاف مالي قدره 20 مليار درهم لفائدة المناطق القروية وشبه الحضرية.
المبادئ المؤطرة للبرامج الجديدة
ترتكز البرامج التنموية الترابية الجديدة على جملة من المبادئ التوجيهية التي تميزها عن سابقاتها، وأبرزها:
1. المقاربة التشاركية: تُبنى البرامج عبر الحوار مع المواطنين والمنتخبين وفعاليات المجتمع المدني، مما يجعل المواطن شريكاً في تحديد الأولويات وصنع القرار التنموي.
2. الالتقائية والتكامل: تتبنى هذه البرامج منظورًا مجاليًا مندمجًا يوحّد جهود الدولة والجماعات الترابية والقطاع الخاص في إطار رؤية موحدة.
3. العدالة المجالية: تهدف إلى تقليص الفوارق بين المجالات، مع تركيز خاص على المناطق الجبلية والقروية والواحات.
4. الحكامة الجيدة: عبر الشفافية والمساءلة واستخدام آليات التتبع الرقمي لضمان فعالية الإنجاز.
5. الاستدامة: بتركيز خاص على تدبير الموارد الطبيعية وخاصة المائية، في مواجهة التغيرات المناخية.
6. التركيز على النتائج: باعتماد مؤشرات دقيقة للأداء والتقييم المستمر لضمان الأثر الملموس على حياة المواطنين
المحاور الأربع المعتمدة
تم تحديد أربعة محاور أساسية تشكل الأعمدة الإستراتيجية للجيل الجديد من برامج التنمية الترابية، وهي:
1. إنعاش التشغيل المحلي: من خلال دعم الاستثمار وريادة الأعمال وتشجيع الأنشطة المدرة للدخل وفق خصوصيات كل مجال ترابي.
2. تحسين الخدمات الاجتماعية: عبر الارتقاء بجودة التعليم والصحة والسكن والخدمات الأساسية بما يضمن كرامة المواطن.
3. التدبير المستدام للموارد المائية: بالاعتماد على حلول استباقية كتحلية المياه وإعادة استعمالها وترشيد الاستهلاك.
4. التأهيل الترابي المندمج: عبر تهيئة المجالات الترابية الأقل تجهيزا بالبنيات التحتية والمرافق العمومية ورفع جاذبيتها للاستثمار.
الآفاق والتحديات
تحمل هذه البرامج آفاقًا واعدة لتحقيق تنمية أكثر عدلاً وتوازناً بين الجهات، غير أن تنفيذها يواجه تحديات تمويلية ومؤسساتية تتعلق بالاستدامة المالية، وتكوين النخب المحلية، وتفعيل المشاركة الفعلية للمواطنين، وتبسيط المساطر الإدارية. كما يبقى الرهان الأكبر هو تحويل هذه البرامج إلى نهج دائم ومستقر يضمن تراكم النتائج وتحقيق الأثر الفعلي على حياة المواطنين.
خاتمة
يشكل الجيل الجديد من البرامج التنموية الترابية المندمجة تحوّلاً نوعياً في فلسفة التنمية بالمغرب، إذ يجعل من الإنسان محوراً لها ومن المجال الترابي فضاءً لبناء السياسات العمومية. إنها رؤية ملكية استراتيجية تسعى إلى تحقيق العدالة المجالية وتكريس الحكامة الجيدة، بما يضمن تنمية دامجة ومستدامة تُعيد الثقة بين المواطن والدولة.
وفي هذا السياق، يُسجَّل بكل تقدير الدور الريادي للسيد عامل إقليم خنيفرة، الذي جسّد في اللقاء التشاوري الموسع المنعقد بالإقليم روح هذه الفلسفة الجديدة في التدبير الترابي، ومبادئ المغرب الجديد – مغرب ما بعد 31 أكتوبر 2025، من خلال مقاربة تفاعلية منفتحة جمعت بين وضوح الرؤية، وعمق التشخيص، واستحضار البعد الإنساني في التنمية. لقد قدّم هذا اللقاء نموذجًا عمليًا لكيفية تفعيل الرؤية الملكية في الميدان، وترجمة العدالة المجالية إلى عمل مؤسساتي مندمج، بما يعزز الثقة ويكرّس التحول النوعي نحو مغرب الفعالية والمسؤولية المشتركة.
الهوامش والمصادر
1. خطاب العرش 29 يوليو 2025 – توجيهات ملكية حول التنمية المجالية المندمجة.
2. خطاب افتتاح البرلمان 13 أكتوبر 2025 – الدعوة إلى إعداد جيل جديد من البرامج التنموية الترابية.
3. دورية وزارة الداخلية رقم 1300/CAB (أكتوبر 2025) الموجهة إلى الولاة والعمال حول إعداد البرامج الجديدة.
4. مشروع قانون المالية لسنة 2026 – محور التنمية الترابية المندمجة.
5. الموقع الرسمي maroc.ma – الجيل الجديد من البرامج التنموية الترابية في صلب السياسة الميزانياتية.
6. وكالة المغرب العربي للأنباء – اللقاءات التشاورية حول إعداد البرامج التنموية الجديدة (نوفمبر 2025).
7. المصلوحي، إبراهيم. الجيل الجديد من برامج التنمية الترابية: السياق والمضمون. مجلة القانون والأعمال الدولية، عدد أكتوبر 2025.
8. برلمان.كوم – أنبيري، خالد. جيل جديد من برامج التنمية بحاجة لجيل جديد من النخب. نوفمبر 2025.


