رأي: عزيز أخنوش… رسائل سياسية بلسان الدولة والمجتمع

بقلم: الدكتور محمد اقبلي
لم يكن الحوار الذي أجراه رئيس الحكومة المغربية عزيز أخنوش ليلة العاشر من شتنبر 2025 مجرد لقاء إعلامي عابر. لقد شكّل حدثًا سياسيًا بامتياز، إذ حرص الرجل في نصف ساعة مكثفة من أصل ساعة و16 دقيقة على توجيه رسائل سياسية قوية تتجاوز الحسابات التقنية للحكومة لتلامس عمق المشهد الحزبي، والمعارضة، والرأي العام.
الشرعية الزمنية والقطع مع هواجس “البلوكاج”
أول رسالة صاغها أخنوش بوضوح: “أنا رئيس الحكومة حتى آخر يوم من الولاية”. هذه العبارة، في ظاهرها بديهية، لكنها في العمق ردّ استباقي على سيناريوهات سابقة عاشها المغرب، حيث طُبعت تجارب بعض رؤساء الحكومات بالتعثر أو الإعفاء أو الاستباق الانتخابي. بالمقارنة مع أسلوب عبد الإله بنكيران المطبوع بالصدامية، أو سعد الدين العثماني الذي وُصف بالتردد، يقدّم أخنوش صورة رئيس حكومة يربط بين الشرعية الزمنية (الولاية كاملة) والشرعية الانتخابية (الحصيلة قبل الصندوق).
الأغلبية كجماعة وظيفية
في قراءته للعلاقة مع الحلفاء، ظهر أخنوش وكأنه يستلهم من السوسيولوجيا السياسية مفهوم “الجماعة الوظيفية”: لكل حزب استقلاليته في خطابه القاعدي، لكن داخل الحكومة لا صوت يعلو فوق التجانس. بهذا أعاد تعريف التحالف كـ”مؤسسة منضبطة”، لا كتحالف ظرفي هش. مقارنة مع هشاشة الأغلبية في عهد عباس الفاسي أو الصراعات الداخلية التي أضعفت حكومات ما بعد 2011، يبرز أن أخنوش استطاع، بفضل خبرته في تدبير المقاولة، أن يحوّل الأغلبية إلى وحدة إنتاجية للقرار العمومي.
وزارة الداخلية كفاعل محايد
حين أعلن ثقته في وزير الداخلية وتأكيده أن “العلاقة سمن على عسل”، لم يكن يبعث برسالة شخصية، بل كان يرمز إلى التقاء الحكومة مع جهاز الدولة الضامن للاستقرار. من زاوية علم السياسة، هذا الموقف يُظهر استيعابًا لمطلب “الحياد المؤسساتي” الذي ظل محل توجس تاريخي في المغرب. بالمقارنة مع خطابات رؤساء حكومات سابقين، الذين غالبًا ما تجنبوا الخوض في موقع الداخلية، بدا أخنوش أكثر جرأة في إعادة تعريفها كفاعل ضامن لا كخصم سياسي.
المعارضة: بين المسؤولية والبوز
في واحدة من أقوى لحظات الحوار، ميّز أخنوش بين معارضة مسؤولة (الاتحاد الاشتراكي، التقدم والاشتراكية) ومعارضة “البوز” (العدالة والتنمية). هذه الثنائية تنتمي إلى خطاب تواصلي مدروس: فهو يثمن معارضة تكمّل العمل الديمقراطي، ويهمش المعارضة التي تحيا بالضجيج. سوسيولوجيًا، يمكن قراءة هذا التمييز كترسيم لهرمية داخل المعارضة نفسها، ما يضع بعض الأحزاب في موقع “الشريك النقدي” وأخرى في موقع “المعارض المعزول”. إنها استراتيجية في التواصل السياسي تهدف إلى إعادة هندسة صورة المعارضة أمام الرأي العام.
الجرأة ومجابهة القضايا الحساسة
حين تناول قضية تحلية المياه والجدل حول “تضارب المصالح”، لم يكتفِ بالإنكار أو الدفاع، بل قدّم أرقامًا ومعطيات تقنية حول كلفة المشروع وآلياته. هنا يظهر تفوقه على بعض أسلافه الذين كانوا يتفادون مواجهة الملفات المحرجة. في منطق علم الاجتماع السياسي، هذه المقاربة تبني “شرعية الإنجاز” عبر تحويل الأزمة إلى فرصة لإبراز الشفافية.
إعادة ترتيب الأجندة السياسية
أخنوش ختم رسائله بالتأكيد أن الانتخابات ليست أولوية اللحظة، بل الأولوية هي الإصلاح والتنمية. من منظور التواصل السياسي، هذا الخطاب ينزع الطابع الانتخابوي عن عمل الحكومة، ويعيد الاعتبار لسياسة عمومية موجهة للمجتمع قبل الصندوق. بالمقارنة مع الخطاب الشعبوي لبنكيران أو “التكنوقراطية الباردة” للعثماني، يوازن أخنوش بين الواقعية الاقتصادية والرمزية السياسية.
خاتمة:
يمكن القول إن الحوار الأخير لم يكن مجرد تواصل سياسي، بل ممارسة لـ”السياسة كخطاب” على حد تعبير بيير بورديو. فقد أعاد رئيس الحكومة تعريف أدوار الفاعلين: الحكومة كمنفذة، الأغلبية كمنضبطة، الداخلية كضامنة، المعارضة كمسؤولة أو مُهمَّشة، والرأي العام كحكم نهائي. بهذا التفوق، يبرز أخنوش كأول رئيس حكومة بعد دستور 2011 ينجح في تحويل الحوار الإعلامي إلى منصة لإعادة هندسة العلاقة بين الدولة والمجتمع، بين الشرعية الزمنية والشرعية الانتخابية، وبين السياسة كإصلاح والسياسة كحملة انتخابية.
مراجع:
1. وكالة المغرب العربي للأنباء (MAP)، تقارير تغطية حوار رئيس الحكومة 10/09/2025.
2. هسبريس – تحليل سياسي: “أخنوش يعلن عن مواصلة ولايته كاملة ويؤكد ثقته في الداخلية”، 11/09/2025.
3. اليوم 24 – ملف “الأغلبية الحكومية بين الحرية والتجانس”، 2025.
4. بورديو، بيير: عن التلفزيون والسياسة كخطاب، باريس، 1996.
5. حنون، عبد الإله: “التواصل السياسي في المغرب ما بعد دستور 2011″، المجلة المغربية للعلوم السياسية، 2023.