النقل المدرسي بالوسط القروي: “العدالة المجالية ورهانات الاستدامة.. جماعة أجلموس نموذجا وطنيا”

بقلم: الدكتور اقبلي محمد
يُعتبر النقل المدرسي في الوسط القروي من أكثر القضايا إلحاحاً في النقاش التربوي والاجتماعي بالمغرب. فالأمر لا يقتصر على توفير وسيلة نقل لتلميذ قروي نحو مؤسسته التعليمية، بل يرتبط بمبدأ دستوري هو الحق في التعليم، وبقيمة مجتمعية كبرى هي تكافؤ الفرص والعدالة المجالية. في مناطق جبلية مثل إقليم خنيفرة، يصبح النقل المدرسي شريان حياة، إذ إن بُعد المدارس وصعوبة التضاريس وضعف البنية الطرقية تجعل من الوصول إلى القسم رهانا يومياً، وسبباً رئيسياً في تفشي ظاهرة الهدر المدرسي، خاصة في صفوف الفتيات.
*جماعة أجلموس: ريادة وطنية في خدمة التعليم*
تُعد جماعة أجلموس من أكبر الجماعات القروية بالمغرب (40 ألف نسمة، مساحة تناهز 1000 كلم²)، وقد تمكنت من تحويل النقل المدرسي إلى ورش تنموي استراتيجي. بفضل شراكة مع جمعية الأعمال الاجتماعية لموظفي وأعوان الجماعة، تؤمن الجماعة أسطولاً من 12 حافلة، تنقل يومياً أزيد من 800 تلميذ، تقطع كل واحدة منها حوالي 100 كيلومتر. ولعل أهم ما يميز هذه التجربة الرائدة على الصعيد الوطني هو حرصها على تأمين فردي لكل تلميذ، بما يعكس وعياً عميقاً بمسؤولية الجماعة في حماية التلميذ وضمان سلامته. وقد أسفرت هذه الجهود عن خفض نسبة الهدر المدرسي التي كانت تمثل حوالي 50% من إجمالي الانقطاع على مستوى الإقليم، إلى ما يقارب 30%، وهو تحول مهم يعكس فعالية التدبير الترابي عندما يقترن بالإرادة السياسية.
*الإصلاحات الحكومية ومشاريع الاستدامة*
لا يمكن فصل تجربة أجلموس عن الإصلاحات الكبرى التي أطلقتها الحكومة المغربية في عهد وزير التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة. فقد جاء مشروع “مدارس الريادة” كمدخل لتجديد المدرسة العمومية وإرساء نموذج للجودة يقوم على المناهج الحديثة والرقمنة والتكوين المستمر. غير أن نجاح هذا المشروع يظل رهيناً بمدى ضمان وصول التلاميذ القرويين إلى مؤسساتهم، وهنا يظهر النقل المدرسي كشرط تأسيسي لا محيد عنه.
وبالموازاة، برز خيار المدارس الجماعاتية بالوسط القروي كأحد الحلول الأكثر نجاعة، حيث يتم تجميع التلاميذ من عدة دواوير في مؤسسات مركزية مجهزة بالداخليات والمطاعم المدرسية. هذه المقاربة، التي أبانت التجارب المقارنة عن فعاليتها، لا يمكن أن تحقق أهدافها إلا إذا ارتبطت بخدمات نقل مدرسي مستدامة، تضمن انتظام التلاميذ في الحضور وتحميهم من الانقطاع.
إن الربط بين النقل المدرسي ومدارس الريادة والمدارس الجماعاتية يتيح رؤية إصلاحية مندمجة، تجعل من هذه المشاريع حلقات متكاملة في معركة بناء مدرسة الإنصاف والجودة والارتقاء.
*قيادة إقليمية متفردة: نموذج خنيفرة*
يُقدّم إقليم خنيفرة تجربة متفردة بفضل الرؤية التي يقودها عامل الإقليم السيد محمد عادل إهوران، والتي تقوم على الاستدامة المندمجة. فقد جرى تأسيس شركة التنمية المحلية ومجموعة جماعات النجاح، مما سيمكن قريبا من توحيد الموارد وتدبير أزيد من 100 حافلة على صعيد الإقليم، في إطار شراكة تجمع بين المجلس الإقليمي والجماعات الترابية والمبادرة الوطنية للتنمية البشرية والسلطات المحلية. هذه التجربة أبانت أن النقل المدرسي ليس مبادرة ظرفية، بل سياسة ترابية مهيكلة، تمثل نموذجاً يمكن تعميمه على المستوى الوطني.
*الأبعاد السوسيولوجية والتربوية*
يرى علماء الاجتماع أن النقل المدرسي يتجاوز بعده اللوجستيكي ليشكل أداة للعدالة الاجتماعية. فالخبير في علم الاجتماع التربوي محمد بوزيان يؤكد أن “الفشل في ضمان الولوج المادي للتلاميذ إلى المدرسة هو أول أشكال التهميش الاجتماعي”. كما يعتبر الباحث التربوي أحمد أوزي أن “النقل المدرسي ليس خدمة تكميلية، بل هو جزء من البنية التحتية التربوية، وغيابه يضرب في العمق مبدأ تكافؤ الفرص”.
من هذا المنظور، يصبح النقل المدرسي وسيلة إدماج اجتماعي، يخفف عن الأسر القروية الأعباء المالية، ويفتح المجال أمام الفتاة القروية للتمدرس في ظروف أكثر أماناً، ويعزز انتظام حضور التلاميذ، بما يرفع من جودة العملية التعليمية.
*الفاعلون في صلب المنظومة*
النقل المدرسي منظومة يتداخل فيها عدد من الفاعلين: التلميذ هو المستفيد الأول، والأستاذ يجد في انتظام حضور تلامذته بيئة ملائمة لتحسين الأداء البيداغوجي، والسائق يتحمل مسؤولية جسيمة في تأمين حياة الأطفال يومياً ليصبح فاعلاً تربوياً غير مباشر، فيما تشكل جمعيات الآباء والأمهات شريكاً أساسياً في التعبئة والمواكبة. ولا يمكن أن نغفل دور الحكومة ووزارة التربية الوطنية في توفير الإطار الإصلاحي، ودور الجماعات الترابية في التمويل والتدبير، ودور المجتمع المدني في الحماية الاجتماعية للتلاميذ.
*تحديات ورؤى مقارنة*
رغم هذه الإنجازات، يظل النقل المدرسي غير قادر بمفرده على حل جميع الإشكالات. فغياب الداخليات ودور الطالب والطالبة، وضعف المسالك الطرقية، وقلة المنح الدراسية، كلها عوامل تحد من أثر النقل. كما أن الحاجة إلى توفير الوجبات الغذائية وإعادة النظر في الزمن المدرسي، خصوصاً عبر تأخير انطلاق الحصص إلى التاسعة صباحاً، تبدو ضرورية لمراعاة واقع الوسط القروي.
وعند المقارنة بالتجارب الدولية، يتبين أن المغرب يقترب من النموذج الفرنسي حيث تتكفل الجماعات الترابية بالنقل المدرسي كخدمة عمومية، فيما اعتمدت تونس شراكات مع البلديات لتأمين النقل المجاني، أما تركيا فقد وضعت معايير وطنية موحدة تحت شعار “الحافلة الصفراء”. هذه النماذج تؤكد أن النجاح رهين بدمج النقل ضمن رؤية شمولية تُراعي الاستدامة.
*خاتمة*
إن تجربة جماعة أجلموس بإقليم خنيفرة، وما رافقها من مبادرات مبتكرة بقيادة عامل الإقليم، تقدم نموذجاً وطنياً رائداً في مجال تدبير النقل المدرسي. فهي تؤكد أن النقل ليس خدمة لوجستيكية ثانوية، بل سياسة اجتماعية وتربوية ومجالية بامتياز. غير أن الرهان الأكبر يظل في الانتقال من الحلول الجزئية إلى منظومة مندمجة تجمع بين النقل، ومدارس الريادة، والمدارس الجماعاتية، والداخليات، والدعم الاجتماعي، في أفق بناء مدرسة مغربية عادلة، دامجة، وذات جودة، تضع التلميذ القروي في قلب النموذج التنموي الجديد.