الاحتجاجات في المغرب 2025: بين المطالب المشروعة والمزايدات السياسية

بقلم: د. امحمد أقبلي
عرف المغرب خلال شتنبر 2025 موجة احتجاجات اجتماعية شملت عدداً من المدن والأقاليم، رُفعت خلالها شعارات مرتبطة بالماء والتعليم والصحة والتشغيل. هذه المطالب في جوهرها مشروعة، بل هي حقوق أصيلة نصّ عليها الدستور المغربي والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان. لكن خطورة اللحظة تكمن في أمرين متداخلين: من جهة، استمرار اختلالات اقتصادية واجتماعية مزمنة أثقلت كاهل الفئات الهشة؛ ومن جهة أخرى، سعي بعض القوى السياسية التي فشلت في التدبير خلال عقد كامل إلى استغلال هذه المطالب لإعادة تموقع انتخابي. وهكذا، تُطعن المطالب مرتين: مرة عند إهمالها، ومرة عند تحويلها إلى وسيلة للمزايدات السياسية.
كيف يمكن قراءة احتجاجات المغرب لسنة 2025 من منظور سوسيولوجي يبرز ديناميات الغضب ومصادره، ومن منظور سياسي يكشف أزمة الشرعية والمصداقية، ومن منظور قانوني يوضح حدود الحق في التظاهر وضبط النظام، ومن منظور اقتصادي يفسر مفارقة الأرقام الرسمية والمعيش اليومي؟
1- ديناميات الغضب ومجتمع المخاطر
تكشف هذه الاحتجاجات عن تحولات عميقة في أنماط التعبئة المجتمعية. فكما أشار بيار بورديو، المجتمع ينتج أشكالاً من اللامساواة التي تتحول إلى احتجاجات عندما يتقاطع الإدراك الفردي بالظلم مع الوعي الجماعي به¹. لقد برز جيل رقمي جديد يوظف منصات مثل تيك توك وديسكورد في التنظيم والتعبئة، وهو ما ينسجم مع أطروحة مانويل كاستلز حول “فضاء التدفقات”²، أي الفضاء الشبكي الذي يعيد تشكيل المجال العمومي. إلى جانب ذلك، برزت خريطة هشاشة مجالية واضحة، خاصة في المناطق الجبلية والداخلية مثل خنيفرة وزاكورة، حيث أدى نقص الماء وضعف الخدمات الأساسية إلى تصاعد موجات الغضب. وهو ما يندرج ضمن ما سماه أولريش بيك “مجتمع المخاطر”³، حيث يصبح غياب تدبير فعال للمخاطر سببًا مباشرًا للاحتجاج.
2- أزمة الشرعية والمزايدات السياسية
من الزاوية السياسية، تعكس هذه الاحتجاجات أزمة الشرعية المخرجاتية كما صاغها دافيد إيستون⁴، إذ لم يعد المواطن المغربي يقيس شرعية الفاعلين السياسيين بالشعارات أو المبادئ، بل بمدى قدرة هؤلاء على تحويل الوعود إلى إنجازات ملموسة. الأحزاب التي مارست الحكم أو الرقابة البرلمانية لعقد كامل لم تفِ بالمطالب نفسها، ثم عادت اليوم لتستعمل لغة المزايدات بدل تقديم برامج واقعية. هنا تستحضر مقولة حنّة أرندت: *”السياسة تفقد جوهرها حين تتحول إلى مجرد تلاعب بالخطاب، بدل أن تكون فعلاً مؤسسًا للحرية”*⁵. إن هذا العجز يفاقم فقدان الثقة، ويحوّل الشارع إلى مجال بديل للتعبير عن التطلعات، خارج الأطر الوسيطة التقليدية.
3- الحق في التظاهر وحدود التدبير القانوني
من الناحية القانونية، يكفل الفصل 29 من دستور 2011 الحق في التظاهر السلمي باعتباره أحد الحقوق الأساسية. غير أن الممارسة تكشف عن صعوبات في تدبير هذا الحق. فالدولة مطالبة بضمان الأمن وفق مبدأ التناسب، كما نص على ذلك العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (المادة 21). وفي المقابل، يتحمل المحتجون مسؤولية الحفاظ على السلمية، كما تتحمل الأحزاب السياسية مسؤولية احترام استقلالية الشارع وعدم تسييله في رهانات انتخابية ظرفية. وهنا يستحضر قول الفقيه نوربرت رولين: *”الحرية لا تختزل في النصوص القانونية، بل في كيفية ممارستها على الأرض”*⁶.
4- مفارقة الأرقام والمعيش اليومي
اقتصاديًا، تكشف هذه الاحتجاجات عن فجوة بين الخطاب الرسمي والتجربة اليومية للمواطن. فبينما تشير الإحصاءات إلى انخفاض نسبي في التضخم وصل إلى 0.3%، ما تزال أسعار المواد الأساسية والوقود تشكل ضغطًا كبيرًا على ميزانيات الأسر. هذه المفارقة يجسدها ما سماه أمارتيا سن “مفارقة التنمية”⁷، حيث لا ينعكس النمو الكلي على تحسين مستوى عيش الأفراد. إن المواطن يقيس واقعه بالقفة اليومية لا بالمؤشرات الاقتصادية الكبرى، فيما يظل ارتفاع معدلات البطالة، خصوصًا بين الشباب والنساء في العالم القروي، سببًا بنيويًا لتجدد موجات الاحتجاج.
إن احتجاجات المغرب لسنة 2025 ليست مجرد أحداث معزولة، بل هي مرآة تعكس عمق الأزمة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والقانونية. وهي من جهة دليل على حيوية المجتمع وقدرته على التعبير عن مطالبه المشروعة، ومن جهة أخرى تكشف عن أزمة ثقة في الفاعلين السياسيين الذين يحاولون استغلال هذه المطالب بدل الاستجابة لها. هذه اللحظة التاريخية تضع المغرب أمام خيارين استراتيجيين: إما تحويل الغضب الاجتماعي إلى فرصة لإعادة بناء الثقة عبر إصلاحات عميقة وعدالة مجالية شاملة، أو تركه يتحول إلى أداة انتخابية ظرفية تُفاقم أزمة المصداقية. إن الرهان اليوم هو بناء عقد اجتماعي جديد قائم على ما وصفه جون رولز بـ”العدالة كإنصاف”⁸، وعلى المسؤولية كأمانة والضمير كالتزام.