قضايا وحوادث

ميزانية الجماعات الترابية: قراءة في الدورية الوزارية وإشكالية الموارد والنخب والتحولات الاجتماعية

بقلم: د. امحمد أقبلي
رئيس جماعة أجلموس

تُعقد خلال الدورة العادية لشهر أكتوبر من كل سنة اجتماعات المجالس الجماعية لمناقشة مشروع ميزانية السنة المقبلة، وهي لحظة دستورية وتنظيمية محورية في الحياة المحلية، يتقاطع فيها المالي بالتنموي، والسياسي بالاجتماعي.

وخلال هذه السنة، تتداول الجماعات الترابية حول مشروع ميزانية 2026 في سياق استثنائي دقيق، تتداخل فيه التحولات الاجتماعية العميقة، وتحديات المناخ، وارتفاع الأسعار، وضغط الطلب الاجتماعي المتزايد.

المغرب يعيش اليوم مرحلة انتقالية متعددة الأبعاد:

تحولات اجتماعية قوامها تزايد وعي المواطن بحقوقه ومطالبه؛

تحولات مناخية بفعل تواتر سنوات الجفاف وبروز إشكالية الماء كأولوية وطنية كبرى؛

وتحولات اقتصادية ناتجة عن ارتفاع أسعار المواد المستوردة وتراجع القدرة الشرائية وتأثر السوق الداخلي.

في خضم هذه الظرفية، جاءت الدورية الوزارية الصادرة عن وزير الداخلية بتاريخ 6 أكتوبر 2025 لتؤطر عملية إعداد الميزانيات وفق مقاربة جديدة عنوانها الانضباط المالي، والنجاعة في الإنفاق، وترشيد الموارد، مستلهمة التوجيهات الملكية السامية التي شددت في خطاب العرش لهذه السنة على ضرورة تحقيق العدالة المجالية والاجتماعية بقوله:

> “لا أريد مغربًا يسير بسرعتين: مغربًا يتقدم ويستفيد من خيرات التنمية، وآخر يعيش التهميش والحرمان.”

إن هذا التوجيه الملكي العميق لا يُعدّ شعارًا بل هو بوصلة سياسية ومجتمعية يجب أن تهتدي بها الميزانيات الترابية في صياغتها واختياراتها.

الإشكالية المركزية

كيف يمكن للجماعات الترابية القروية، في ظل التحولات الاجتماعية والمناخية والاقتصادية الراهنة، أن تضع ميزانيات واقعية ومتوازنة تُحقق العدالة المجالية وتستجيب لتطلعات المواطن، رغم ضعف الموارد المالية واهتزاز البنية النخبوية المحلية؟

قراءة في الدورية الوزارية: من الانضباط المالي إلى التوازن الاجتماعي

تُعيد الدورية الوزارية الجديدة ضبط هندسة التدبير المالي المحلي على أساس ثلاث مرتكزات رئيسية:
الترشيد، الشفافية، والالتقائية.

فهي تدعو الجماعات إلى ترشيد نفقات التسيير، وتعبئة الموارد الذاتية، ومراجعة الرسوم المحلية، وتنفيذ الأحكام القضائية وفق جدولة زمنية تضمن الاستقرار المالي. كما تشدد على الميزانية المندمجة التي تراعي النوع الاجتماعي ومشاركة المواطن.

لكن تنزيل هذه المقتضيات يواجه تحديات موضوعية واضحة:

ضعف القدرات الإدارية والتقنية، تباين البنية الاقتصادية بين الجماعات، وتعقّد المساطر المالية.
إنها مرحلة انتقال من منطق الميزانية الشكلية إلى منطق الميزانية بالأثر.

معضلة الموارد المحدودة والطلبات الاجتماعية اللامحدودة

تُظهر التجربة الميدانية أن الجماعات القروية تواجه معادلة شبه مستحيلة: موارد محدودة مقابل حاجيات مجتمعية متزايدة.

فالتحويلات المركزية لا تكفي، والمداخيل الجبائية لا تتطور بالوتيرة المطلوبة، في حين تتضاعف الطلبات على الماء والكهرباء والطرق والتعليم والصحة.

وفي ظل تغير المناخ وتراجع التساقطات، باتت الجماعات القروية مطالبة بتأمين الماء كحق وجودي قبل كل شيء، مما يجعل الأولويات المالية تميل إلى “الضرورة الحيوية” أكثر من “التنمية الإنتاجية”.

هذه الفجوة البنيوية بين الحاجيات والإمكانيات تُنتج حالة دائمة من الضغط المالي والسياسي داخل المجالس.

التحديات المالية والبنيوية

تواجه الميزانيات الجماعية ثلاثة تحديات رئيسية:
الأول هو الضعف الجبائي البنيوي في غياب قاعدة اقتصادية قادرة على تغذية الخزينة المحلية.
الثاني هو ثقل النفقات الإجبارية التي تستهلك القسم الأكبر من الموارد، وتترك هامشًا محدودًا للاستثمار.
الثالث هو تنامي الالتزامات القضائية النهائية بمبالغ كبيرة تهدد التوازن المالي للجماعات الصغيرة.

هذا الوضع يجعل الجماعة أسيرة لمنطق التدبير اليومي بدل الرؤية الاستراتيجية، ويقوّض إمكانيات الإبداع في التمويل.

أزمة النخب المحلية وإعادة تشكيل المشهد السياسي

أزمة الجماعات القروية ليست مالية فحسب، بل هي أزمة نخب بالأساس.

فالنخبة التقليدية ما تزال حبيسة منطق الولاءات والمحسوبية، في حين يصعد جيل جديد من المنتخبين الشباب يمتلك أدوات التواصل والوعي الرقمي، لكنه يصطدم بجدار البيروقراطية والممانعة الإدارية.

تتولد عن هذا الصراع الجيلي دينامية جديدة داخل المجالس، لكنها تظل محكومة بتوازنات هشة وتحالفات متقلبة تخضع أحيانًا لمنطق البراغماتية المفرطة.

إن تدبير الميزانية، في هذا الإطار، يصبح ليس فقط عملاً مالياً، بل اختبارًا للنضج السياسي والأخلاقي داخل المجالس المنتخبة.

من ميزانية التسيير إلى ميزانية المواطن

تحاول الدورية الوزارية إدخال منطق جديد يتمثل في ميزانية المواطن، أي ميزانية واضحة ومبسطة تُعرض على المواطن بلغة يفهمها، وتُشركه في صياغة أولوياتها.

بهذا المعنى، تتحول الجماعة من جهاز إداري مغلق إلى فضاء مفتوح للمساءلة والمشاركة.

الميزانية المواطنية ليست مجرد تمرين تواصلي، بل مدخل إلى بناء الثقة، حيث يرى المواطن كيف تُصرف موارده، وبأي أثر على حياته اليومية.

لكن نجاح هذه المقاربة يتطلب تحولاً ثقافياً داخل الإدارة المحلية، وتدريباً للنخب على التواصل المالي الشفاف.

الميزانية التشاركية والبعد الاجتماعي في التخطيط المالي

إلى جانب ميزانية المواطن، تبرز مقاربة الميزانية التشاركية التي تُكرّس انخراط المجتمع المدني والساكنة في تحديد المشاريع ذات الأولوية.
أما الميزانية الحساسة للنوع الاجتماعي، فهي تعكس تحولاً في التفكير التنموي من منظور العدالة الجندرية والمجالية، من خلال تقييم أثر الإنفاق على النساء، والأطفال، والشباب، والفئات الهشة.

التحول من منطق المحاسبة إلى منطق الإنصاف هو جوهر الإصلاح المالي الجديد.

التحالفات البراغماتية وتفكك التوازنات

تعكس المناقشات الميزانياتية في كثير من الجماعات تفكك التحالفات السابقة وبروز تحالفات ظرفية، تجعل من الميزانية ساحة تفاوض سياسي أكثر من كونها وثيقة للتنمية.

هذا الواقع يفرغ النقاش المالي من بعده المجتمعي، ويحوّله إلى لعبة توازنات آنية.

لكن الأجيال الجديدة من الفاعلين، خصوصاً الشباب من جيل Z، بدأوا يطالبون بميزانية خالية من الحسابات السياسية، ومرتبطة حصريًا بالأثر الاقتصادي والاجتماعي على المواطن.

التحولات الاجتماعية والمناخية والاقتصادية وتأثيرها على القرار المالي

لم تعد السياسة المالية المحلية بمنأى عن التحولات الكبرى.

الجفاف بات واقعاً مستمراً لا استثناءً مناخياً، وتزايد أسعار المواد الأساسية المستوردة يعمّق عجز السوق الداخلية ويحدّ من الاستثمارات.

في المقابل، تتسع دائرة الفئات المتضررة والمطالبة بالتدخل الجماعي، من الفلاحين إلى الشباب الباحثين عن فرص عمل محلية.

هذه التحولات تجعل من الميزانية الجماعية وثيقة مقاومة، لا وثيقة إدارة فقط؛ مقاومة للجفاف، للهشاشة، وللفوارق المجالية.

الخاتمة

إن ميزانية الجماعات الترابية القروية في مغرب اليوم ليست مجرد عملية مالية تقنية، بل هي مرآة لعلاقة الدولة بالمجتمع، وميزان لمدى نجاعة الحكامة المحلية.

إن التحدي الأكبر يكمن في الانتقال من منطق الصرف إلى منطق الأثر، ومن التدبير المحاسبي إلى التدبير المجتمعي، ومن النخبوية إلى المشاركة المواطنة.
وفي ضوء التوجيه الملكي السامي: “لا أريد مغرباً يسير بسرعتين”، فإن العدالة المجالية لم تعد خياراً سياسياً، بل واجباً دستورياً وأخلاقياً.

ميزانية 2026 ليست رقماً في دفتر، بل امتحان حقيقي لقدرة الجماعات القروية على إعادة تعريف التنمية، وتثبيت الثقة، وصياغة أفق جماعي جديد يليق بمغرب الإنصاف والكفاءة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المثمر
زر الذهاب إلى الأعلى