جديد24

جرائم المال العام في ضوء تعديل قانون المسطرة الجنائية: قراءة قانونية وقضائية وفقهية مع دراسة تطبيقية حول الجماعات الترابية

بقلم: الدكتور امحمد أقبلي
رئيس جماعة أجلموس – إقليم خنيفرة

مقدمة

يطرح موضوع جرائم المال العام بالمغرب تحدياً مؤسسياً وقانونياً يتجاوز البعد الزجري التقليدي نحو رؤية شمولية للشفافية والحكامة. وقد جاء تعديل قانون المسطرة الجنائية بمقتضى القانون 03.23 منسجماً مع المتغيرات الدستورية التي جعلت حماية المال العام مبدأً دستورياً ذا بعد إلزامي. وفي هذا السياق، أصدر رئيس النيابة العامة منشوراً تفسيرياً موجهاً إلى جهاز النيابة العامة عبر مختلف محاكم المملكة، من أجل توضيح الإطار التنظيمي الجديد لمعالجة الجرائم الماسة بالمال العام. وقد مثّل هذا المنشور نقطة انطلاق لقواعد أكثر صرامة واحترافية في تحريك البحث الجنائي، وأعاد تشكيل العلاقة بين النيابة العامة والهيئات الرقابية.

تكمن الإشكالية المحورية للدراسة في تحديد أثر التعديل الجديد على آليات المتابعة، وخاصة في الجرائم المرتبطة بتسيير الجماعات الترابية التي تشكل نموذجاً مجالياً حياً لهذا النوع من القضايا. وتحتمل هذه الإشكالية فرضية أساسية مفادها أن تقييد تحريك المتابعة بالإحالة المؤسسية الصادرة عن هيئات الرقابة العليا لا يمثل تضييقاً على الدور الدستوري للقضاء، بل إعادة تنظيم محكمة لمسار المتابعة بما يعزز الحكامة والنزاهة.

الأساس الدستوري والمؤسساتي لحماية المال العام

إن دستور 2011 رسّخ مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، ونص في فصله السادس والثلاثين على تجريم كل أشكال الاعتداء على المال العام، كما أقر في الفصل 167 إحداث هيئة النزاهة والوقاية من الرشوة. وقد أكدت المحكمة الدستورية في قرارها عدد 995/16 أن حماية المال العام التزام دستوري يقع على الدولة ومؤسساتها. ومن جهة أخرى، عمل المجلس الأعلى للحسابات على تأطير مفهوم الرقابة باعتباره أداة سابقة لقيام المسؤولية.

التطور التشريعي للمسطرة الجنائية

تُعد المادة 3 من قانون المسطرة الجنائية الركيزة الأساسية للتجديد القانوني، حيث حرمت النيابات العامة من المبادرة التلقائية في الجرائم المالية إلا بناء على طلب يصدر عن الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، وعلى أساس إحالة أو تقرير صادر عن الأجهزة الرقابية الرسمية. وبذلك انتقل المشرع من نظام المتابعة المرتكزة على الشكاية إلى نظام المتابعة المرتكزة على التقرير المؤسساتي، الذي يعكس فلسفة «الافتحاص قبل الاتهام».

كما أن الاستثناء التشريعي في حالة التلبس منح النيابة العامة سلطة المبادرة الفورية دون تقييد، انسجاماً مع القواعد الكلاسيكية للمسطرة الجنائية ولضمان سرعة التدخل والحفاظ على وسائل الإثبات.

الأبعاد الفقهية والقضائية

تفاوتت التفسيرات الفقهية للمقتضيات الجديدة. فهناك اتجاه يعتبر التقييد نوعاً من الحد من ملاءمة النيابة العامة، بينما ذهب الاتجاه الغالب إلى أن الجرائم المالية بحكم طبيعتها التقنية تستلزم خبرة محاسبية وتدقيقاً مهنياً قبل اللجوء إلى القضاء. وقد اتجه القضاء المغربي، وخاصة غرف جرائم الأموال، إلى اعتماد تقرير المجلس الأعلى للحسابات كوثيقة ذات حجية في الإثبات الجنائي، وإلى توسيع مفهوم الإهمال الجسيم كأساس للمسؤولية الجنائية حتى دون ربح شخصي للمسؤول.

النموذج التطبيقي: جماعة ترابية كنموذج للمتابعة الجنائية المالية

تعد الجماعات الترابية المجال الأكثر عرضة للجرائم الماسة بالمال العام بحكم تعددية مصادر التمويل وطبيعة المشاريع العمومية. وقد رصد المجلس الأعلى للحسابات في أحد تقاريره السنوية حالات تبديد للمال العمومي تتعلق بصفقات تهيئة طرق وقنوات الصرف الصحي في جماعة ترابية، حيث تبين عدم احترام القواعد القانونية للصفقات، وغياب دفاتر التحملات، والرفع من قيمة الأشغال دون مبرر تقني. كما تبين أن بعض الموظفين الجماعيين وقعوا عقوداً مخالفة للقانون، وتمت الإحالة على النيابة العامة التي لم تحرك المتابعة إلا بناء على إحالة رسمية.

ويكشف هذا المثال أن الإحالة المؤسسية أصبحت المدخل الوحيد لتحريك الدعوى. كما تؤكد هذه الحالة أهمية الأجهزة الرقابية الداخلية، وأن مجرد شكاية مواطن أو طرف سياسي لم يعد كافياً لتحريك المتابعة. وقد اعتبرت المحكمة أن الاختلالات الثابتة بالتقارير الرسمية مسوغاً كافياً للمساءلة الجنائية للآمرين بالصرف، وأن مبدأ التدبير الحر لا يحول دون المسؤولية طالما أن السلطة التقديرية مقيدة بالقانون.

تقييم الإصلاح في ضوء الجماعات الترابية

إن تطبيق القانون 03.23 في المجال الترابي أحدث تحولاً نوعياً في مسار حماية المال العام, إذ لم يعد تدبير المال الجماعي شأناً إدارياً محضاً بل أصبح ذا بعد جنائي وقضائي. وهذا التحول كرّس ثلاث نتائج رئيسية، الأولى أن الدولة انتقلت من مفهوم المتابعة المفتوحة إلى مفهوم المتابعة المؤطرة بالمؤسسة الرقابية. والثانية أن تقارير الرقابة أصبحت وسيلة إثبات لا يمكن تجاوزها. والثالثة أن حماية المال العام أصبحت مسؤولية مشتركة بين الأجهزة الرقابية والنيابة العامة والقضاء المالي.

خاتمة

يمثل القانون 03.23 ومنشور رئاسة النيابة العامة مرحلة جديدة في العدالة الجنائية المالية. فالإحالة المؤسسية، وحصر التحريك في الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، واعتبار تقارير الرقابة أساساً للتحقيق، تعد جميعها أدوات لتعزيز الثقة في القضاء وحماية المال العام من الانحراف. ويبدو أن هذه المستجدات ستعيد تشكيل طبيعة المحاسبة داخل الجماعات الترابية، وتحصّن القضاء من التسييس أو الشكايات الكيدية، وتؤسس لنموذج جديد من العدالة المالية يسعى إلى الوقاية قبل الزجر، والافتحاص قبل الاتهام، والخبرة قبل المتابعة.—

المراجع والهوامش

القرار عدد 995/16، المحكمة الدستورية.
حكم غرفة جرائم الأموال، الرباط رقم 305/2018.
حكم غرفة جرائم الأموال، الدار البيضاء رقم 556/2019.
قرار محكمة النقض الإدارية عدد 322/2019.
تقرير المجلس الأعلى للحسابات، التقرير السنوي 2020.
Loi n°2013-1117 relative au PNF.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المثمر
زر الذهاب إلى الأعلى