والواقع أن الملك نفسه لم يسع إلى إثارة هديته لرئيس حكومته السابق، ربما عملا بالآية الكريمة من سورة البقرة: “إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيرٌ لَّكُمْ”.
ولو أراد الملك فعل ذلك لصدر بيان رسمي عن الديوان الملكي لملك بمصاريف جنازات ضحايا حوادث السير، أو عندما يرسل حاجبه محملا بهدايا ملكية إلى الزوايا الدينية، ولكن شيئا من هذا لم يحدث. وعكس باقي الشخصيات التي حظيت بهدايا وهبات ملكية ولاذت بالصمت، اختار رئيس الحكومة السابق أن ينشر على الناس خبر استفادته من معاشٍ استثنائي، بل وبادر، في سابقةٍ من نوعها، إلى الدعوة إلى عقد ندوة صحافية في بيته، ليس لتبرير حاجته إلى المال أمام سيل الانتقادات التي طاولته من فقراء شعبه، وإنما للتباهي بـ “الهبة الملكية” التي قال إنها شرف له ولحزبه!
والحال أن بنكيران الذي قضى خمس سنوات رئيسا للحكومة لا يمكن أن يكون قد بلغ به الأمر إلى الحد الذي يجعله في وضع المحتاج إلى مثل هذه “المكرمة” التي قال إنها “هدية من الملك”، و”هدية الملك لا ترد”، على حد تعبيره، مع أن الأمر يتعلق بمالٍ من خزينة الدولة،
لأن المعاش لا يُصرف من ميزانية القصور، وإنما من صندوق التقاعد الذي يدرك بنكيران، قبل غيره، أنه صندوق مهدّد بالإفلاس بسبب العجز الكبير والمزمن الذي يعاني منه، وقد عجز هو نفسه عندما كان رئيسا للحكومة أن يجد له حلا!
كان يمكن لبنكيران أن يكتم الأمر، ما دام صاحبه لم يبادر إلى إشهاره إعفافا للمكرم عليه، أو أن يعتذر عن قبول “الهدية” ويعفى نفسه من تبرير قبولها، ويغني الناس عن النقاش بشأن مدى استحقاقه لها، أو أن يُؤثرها على نفسه، حتى لو كانت به خصاصة، ويتبرّع بها إلى من هم أحق منه بها في بلدٍ تقول إحصائياته الرسمية إن عدد فقرائه أربعة ملايين، بالكاد يتجاوز دخل الواحد منهم دولارين يوميا.
بنكيران هو من سعى إلى “إشهار” عطية الملك له، وبالتالي هو من اختار أن يضع نفسه في
موضع السؤال والنقاش بشأن أحقيته في الحصول على تقاعد استثنائي عن خمس سنوات فقط قضاها رئيسا للحكومة، وهو الذي كان أيام كان حزبه في المعارضة يُعارض حصول البرلمانيين على تعاقد، على اعتبار أن مهمة البرلماني تطوّعية، وليست إلزامية.. أو ليست كل المهام السياسية، عندما تكون خالصة، تطوّعية؟
ليس هذا فحسب، في أثناء الحملة الانتخابية عام 2011، والتي تصدّر حزب بنكيران الإسلامي نتائجها، وبناء عليها تم تعيينه رئيسا للحكومة آنذاك، وضع الحزب شعارا لحملته تلك يقول: “صوتك فرصتك لمحاربة الفساد”، وجعلت حكومته محاربة “الريع” بكل أشكاله في مقدمة أولوياتها، لكن ما حدث هو العكس، فعندما وصل بنكيران إلى رئاسة الحكومة قال للمفسدين جملته الشهيرة: “عفا الله عما سلف”، أما “الرّيع” فأصبح مبرّرا على اعتبار أنه “رزقٌ من عند الله” يؤتيه من يشاء، تماما مثل “هدية” بنكيران، مع فارقٍ بسيط، هو أن خَراجها يأتي من صندوق تقاعد المغاربة، وليس من السماء التي لا تمطر ذهبا ولا فضة.
مثل هذه التناقضات ما بين الأقوال والأفعال تضع الساسة، وخصوصا من يتبنّون خطابا دينيا لبلوغ غاياتهم، ويبرّرون به سلوكاتهم، أمام مفارقاتٍ قاتلة. إنها الانتهازية المقيتة التي توقع بالسياسي عندما يسقط في شباكها، أما من يسعى إلى تبريرها والدفاع عنها فإنها تحوّله إلى مادة للسخرية والتفكّه ورواية النكات التي تتوارثها الأجيال