لحسن حظي أني تابعت في ظرف أربعة من أيام عملين مسرحيين، لنفس المخرج، و بإيقاعين مختلفين، في مدينتين اثنتين. لحسن حظي أن المسرح أنقذني من تفاهات سينمائية كثيرة أثرت على عيني مؤخرا، و جعلتني أطرد القبح و لو مؤقتا من مخيلتي التي كادت تصاب بالتعفن. لحسن الحظ أن بعضا من شباب مغاربة، من ضمنهم “أمين ناسور” يعيشون بيننا و معنا، و يسهمون في زرع الجمال و تبجيل الفن و استعادة عادة احترام الجمهور. لحسن الحظ أنني توجهت من صفرو الميتة ثقافيا إلى فاس قاصدا قاعة الحرية، لأتابع مسرحية “شابكة” لفرقة “الأوركيد” من بني ملال التي سمعت عنها الكثير، و قال عنها بعض من عقلاء بأنها ظلمت في المهرجان العربي الذي احتضنته أرض مصر و بأنها لم تمنح جائزة كبرى كانت في نظرهم مستحقة. سينوغرافيا طارق الربح، و اشتغال على محور خشبي بعمود حديدي غيرت وجهته مرة واحدة في العمل. تنافر أفكار الممثلين فوق الركح في البداية، تشدك كمشاهد. التنافر كبير، و الأوجاع المعبر عنها في قالب كوميدي تجمعها وصلات موسيقية، تفنن في عزفها ممثلان و انسجم معها البقية. البقية التي تلي البقية، تكفل بإبلاغها للجمهور ممثلون لم أكن أعرف منهم قبل المشاهدة سوى المجرب عبد الله شيشا.
نفس سارتري، و لغة التضاد المغلفة بالمزحة تجعل الألم يقدم في طبق مرح، و الأمل يباع فوق طبق من توتر. الشاب المناضل في علاقة توتر مع والديه، و هما أيضا يعيشان في علاقة توتر و توجس دائمين. بين هؤلاء و الآخرين، تسود أيضا علاقة توتر أو اشتباك. كيف تنهار القيم، و كيف يتحول الجشع ألى عملة هذا الزمان، و كيف يحضر الاتفاق فقط في نقطة التأفف. نفس سارتري، لكن اللغة التي اختارها ناسور تجعل العمل قريبا من الجمهور بكل أطيافه و مكوناته. تضحك و أنت مستاء، و تستاء و أنت ضاحك و تعيش داخليا حالة الاشتباك المتحدث عنها. في “شابكة” عن نص “على باب الوزير” للأستاذ عبد الكريم برشيد، تقتنع بأن الشباب بمن فيهم المخرج و كل الممثلين دون استثناء، نجحوا في إيجاد الوصفة التي تجعل المشاهد يقطن فوق مقعده دون رغبة في المغادرة.
أغادر قاعة الحرية مرتاحا لما قدم مسرحيا، لتعتقلني على الفور أنباء غير سارة عن سينمانا و عن لجان دعمها و قصصها البئيسة التي لا تنتهي، و أصاب بالدوار و بضيق و ضنك ألفتهما في السنوات الأخيرة بالنظر لسوء التسيير من طرف المركز السينمائي المغربي. يأتي الفرج من المسرح مرة أخرى، و دعوة جديدة في الرباط لأشاهد في مسرح محمد الخامس عملا آخر بعنوان “لمبروك” لنفس المخرج و من تأليف أنس العاقل. هنا عمل مسرحي لفرقة “ستيلكوم” بإيقاع آخر، و بسينوغرافيا مختلفة لأنور الزهراوي و بممثلين محترفين أعرف كفاءتهم فوق الركح منذ سنوات. عبد الله ديدان و لطيفة أحرار و فريد الرگراگي و وسيلة صابحي و هاجر الشرگي. أعرفهم جيدا، و أعرف بالخصوص كيف يبدعون مسرحيا، حين يتوفر لهم الحد الأدنى من ظروف مواتية للاشتغال و التلذذ بحلاوة الاشتغال في المسرح. بعين مستمتعة، تابعت نجوم الزهرة رفقة فريق جديد غير ذلك الذي عهدتها فيه، و فوق خشبات غير تلك التي ألف جميع المغاربة مشاهدتها تبدع فوقها. مسرح لبساط بلمسة تجديد، و باستغلال جيد لموروث تراثي شعبي.
ولجت القاعة متخوفا من أن أتابع اجترارا لما أعرفه و ما أحفظه، و ما سبق لي أن شاهدته مرات و مرات. عثرت على ممثلين يداعبون التجديد و يرتجلون حسب الحاجة و يطورون ما كان سينهك و يرمى للأبد. مزيج من نصح و مرح و خديعة بريئة، و الخديعة البريئة في العمل الفني هي التي سبق و كتب عنها “روجير إيبرت” سطورا كثيرة لن يفنى مفعولها إلى الأبد. في “لمبروك” لأمين ناسور تحضر الخطيئة البريئة، و تحضر الفرجة، و يحضر الاجتهاد، و هنا في هذا الركن يحضر التنويه.
لحسن الحظ أني عثرت على المسرح الذي أنساني خيبات أخرى، و لحسن الحظ أن مجتهدين كثر يعيشون معنا و بيننا، و يجعلوننا ننقل الأمل في داخلنا إلى بر الأمان الإبداعي. من ذي قبل، كنت أكتب عن المسرح و للمسرح فقط حين أشاهد عملا يثيرني شمالا عند الغرب. لحسن الحظ، أن إبداعات محلية صارت تشجعني بين الفينة و الأخرى لأضحي و لو قليلا ببعض من مداد قلمي.. لحسن الحظ.. حقا، لحسن الحظ!