جديد24سلايدر

هل مات آدم وحواء قبل أن يضْحكا؟… السخرية والمأساة.. وكورونا

كأنَّ السدَّ الذي كان يحبس خفَّةَ دم العالم انهار فجأة، ما إن أطل فيروس كورونا برأسه أصبح منسوب الضحك عاليًا، بل لعله الأعلى من أي فترة عاشتها البشرية، دون أن ننسى السرعة التي يتم فيها تبادل الطُّرَف عبر القارات اليوم.
السخرية هي الشقيقة الأجمل والأصغر للمأساة، ما دام الإنسان بدأ حياته بمأساتين كبيرتين، النفي من الجنة، والقتل على الأرض.
لا يستطيع أحد يؤكد لنا متى ضحك الإنسان أول مرة. أشك أنه ضحك حين عثر على ثمرة وتذوقها، لأن خبرته مع التفاح كانت مأساة؛ أقسى تجربة عاشها حتى ذلك الحين، ولم يزل يعاني من آثارها حتى اليوم.
ولذا، أرجّح أنه عاش طويلًا قبل أن يضحك؛ فميلاد سلالة جديدة لآدم وحواء لم تستطع محو ظلال مأساة قتل قابيل لأخيه هابيل من روحيهما؛ لا بد أنهما عاشا مؤرَّقين بمسألة مَن سيقتل مَن مِنْ أحفادهما!
لذا، أقدِّر أن حواء وآدم ماتا قبل أن يضحكا، وأن أول الضحك كان حين بدأ الإنسان يحس أن باستطاعته تذكُّر المأساة التي باتت تفصله عنها مسافة آمنة، بحيث لم يعد يخشاها، لأن مسافة الأمان هي ما شجَّعتْه على استعادتها ضاحكًا، سواء كانت مأساة غيره، أو مأساته، أو لعله ضحك حين بدأ ينسى.
كلما كبرت المأساة، فاضت السخرية أكثر، لكن السخرية تنكمش كشفاهنا، كلما رأينا المأساة تقترب منا.
ذلك ما لاحظته، ولاحظه كثيرون، لا بدّ، في هذا العالم؛ ففي بدايات الوباء، وبُعْده عنّا، في الأردن مثلًا، كان الضحك عاليًا، الضحك المصحوب بلا مبالاة واضحة، حين كانت هناك إصابة واحدة، كان العناق على أشده! والمصافحات، ولم يكن صاحب العُرْس، أو العزاء يقبل التنازل عن ستِّ قُبَلٍ على الأقل، يحفرُها في خدَّيه كلُّ مهنئ له، أو مُعَزٍ، لأن أي انخفاض في عدد القُبل، المصحوبة بعناق، مأساة بالنسبة له، تعني أن المهنئ ليس فرِحًا كفاية، والمُعزّي ليس حزينًا كفاية، ولعل الأمر نفسه يحدث في زوايا أخرى، حيث الحبيبة ستشكُّ في حبِّ حبيبها، والحبيب في حبِّ حبيبته، والولد أو البنت اللذان سيُحرَمان، فجأة، من قبلة الأبوين.
لكن ذلك كله يتغير عندما يبدأ كل شخص من هؤلاء يرى الفيروس في عيني الآخر بدل أن يرى صفاء عينيه، أو يلمس دفء يديه، أو يأوي لأمان حُضنه!
يضحك العالم قَبْل وصول الخطر، حتى ترامب يمكن أن يضحك! حين يعلن أن أمريكا ليست دولة كالدول الرّعاع، لتخشى الفيروس، وسيضاعف حجم المأساة حين يسعى لاحتكار أي عقار يمكن أن يُشفي العالم، العالم المُصاب، ليُنقذ أمريكا، فقط أمريكا. ولن يكون بوريس جونسون، رئيس وزراء بريطانيا، أقل مأساوية وهي يبتسم مطمْئِنًا الجميع، وهو يتحدى كورونا فاتحًا له الأبواب كلها ليفتك بالبشر كما يريد، بهدف تحصين الأمة، مانحًا الفيروس رخصة ممارسة الانتخاب الطبيعي، كما الطبيعة الأم، للحصول على أُمَّة شابة بعد ذلك، مُتخفِّفة من (العجائز) الذين لم يعد لوجودهم ضرورة! في (عبقرية) جونسون ما هو أكثر من المأساة. ولم يَسْلَم من هذا سوى القلة القليلة، أعني التبرع بتقديم كبار السن كأضحية للفيروس كي يشبع، لتنجو الأمّة الشابة، وهذا يذكِّرني بمسلسل جديد هو “الدّخيل” The Outsider – المأخوذ عن رواية ستيفن كينغ، إذ يتبرع أحدهم لتقديم الضحايا الآدميين للوحش الغامض الدّخيل كي ينجو.
كل مكان تصله المأساة يجفُّ فيه الضحك، يصبح خجولًا أكثر، وهذا ما حدث لترامب الذي جُنّ لينجو، وتنجو الأمة؛ إنه يقذف الآخرين من السفينة لتحيا أمريكا، وكذلك الأمر مع جونسون الذي أصبح يتخبط بين أن يُقدِّم الضحايا (العجائز) على طبق للفيروس القاتل، أو لا يقدِّمهم.
قال الدكتور مصطفى محمود، الذي فَتَن صبانا (البريء) ببرنامجه “العلم والإيمان”: “لا يمكنك أن ترى صورتك في الماء وهو يغلي.. كذلك لا يمكنك أن ترى الحقائق وأنت غاضب”. ربما تصِحُّ تلك الجملة على الفرد في حالة الغضب، لكنها لا تصحُّ حين تمسّ حدود الوجود. فالمأساة هي أفضل مرآة يرى البشر فيها صورهم الحقيقية، ومن لا يستطيع أن يرى إنسانيته في لحظة غليان المأساة، لن يرى سوى أنانيته، وجنونه وهو يطلب النجاة له والهلاك للآخرين.
هذا ما رأيناه في ترامب وجونسون، ورأيناه في الاقتتال من أجل لفَّة ورق صحيّ، في الحوانيت التي التَهَم البشرُ كلّ ما على رفوفها، وكأنهم الجراد الذي لا يترك خُضرةً خلفه لأي مخلوق.
نحن لا نضحك إلا إذا كنا آمنين حقًا، أو خائفين، نطردُ الخوف عنا، أو ناجين مما ظننا أننا كنّا على بُعْد شبر من أن نكون ضحاياه.
سأقتبس من رواية “حرب الكلب الثانية” التي شغلتْني فيها كثيرًا المأساة والطرفة، أو المأساة والسخرية” في ظلِّ الوباء الذي اجتاح البشر، فيها:
(هذا الهدوء هو الابتسامة الوحيدة في هذه المأساة/ إنها مأساة، ولكنني أبذل جهدًا هائلًا لكي أحوِّلها إلى طُرْفة كي لا أُجَنّ/ لم تكن الحكمة الكاملة سوى الخيط الدّقيق الفاصل بين طُرْفة نبتتْ في أرض البراءة ومأساة تتطلّع جائعة لأرض الخراب!/ المأساة الحقيقية هي تلك التي يعانيها مَن لم يروا أشباههم، أو الصورة التي سيكونون عليها، إذا ما كانت مناعتُهم، ولا أجد كلمة غير هذه، إذا ما كانت مناعتهم أضعف، بحيث يصبحون هم الصُّوَر بعد أن كانوا أصولًا/ وحاول المذيع، على غير عادته، أن يتوسّل الطرفة في لحظة تخنقها المأساة/ في تلك اللحظة أحسّت والدتُه أن قدميها هوتا في الطين، وأن الطُّرفة في طريقها لأن تتحوّل إلى مأساة، طال الوقت أو قصُر! سعلتْ، فسمع أكثر من سعال يأتي من الشارع ومن الشرفات المقابلة، وما هي إلّا لحظات حتى انتقلت العدوى إليه!).
وبعــــد:
لم أخطط لأن يكون المقال على ما هو عليه، كنتُ أفكر في مطعم بيتزا يلبي طلبات زبائنه من الورق الصحي، وشاب فلسطيني هرب من الحَجْر ليكون مع حبيبته، وحبيبة أبلغت السلطات بإصابة حبيبها بالفيروس، لأنه تركها، وعاطل أو معطّل عن العمل التجأ للحجر ليحظى بالمأوى والطعام، وأمريكيّ -كم يشبه رئيسه ترامب- اشترى 18 ألف عبوة تعقيم وخبأها، وأناس رأوا الشفاء في لعْق الأضرحة، وآخرون يُصلوُّن أَمام المسجد، جماعةً، بعد أن أغلقت السلطات المساجد لتحميهم، وحكايات إنسانية جميلة عن بشر جميلين رغم هذا الوباء، مثل حكاية البنتين الكنديتين اللتين ابتكرتا طريقة لتقديم المساعدة للمحتاجين فتبعهما عشرات آلاف الطيبات والطيبين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المثمر
زر الذهاب إلى الأعلى