د. سعيد عبد الرحمان بنخضرة*
من المؤكد أن الأخطار البيولوجية، قد تكون في نهاية الأمر أكبر من خطر الطاقة النووية، فالأوبئة لم تعد تدار بالشكل المخبري النظري على حيوانات التجارب التي تمثل الفئران العينة المفضلة لتأكيد خلاصات ونتائج تجار بها، وإنما أصبح اليوم الجنس البشري هو الآخر قابلا للاستنساخ، وللتجربة وهو على قيد حياته.
قديما كانت التجارب والدراسات تقام على جثث مرضى معينين للوصول إلى نتائج تضمن بقاء الجنس البشري وديمومته، وعلى العكس من ذلك، أصبح اليوم الحق في الحياة مهددا من قبل بعض الجهات من ناحية أولى، وحتى من طرف بعض الأشخاص من ناحية ثانية.
وإذا كانت الأولى تدخل في نطاق المسؤولية الجنائية الدولية على الجرائم ضد الإنسانية، فإن الثانية يمكن البحث لها عن موقع في صلب التشريعات الجنائية الدولية والوطنية، ذلك أنه لا أحد بإمكانه الاعتقاد بأن ساعة إحراق المدونات الجنائية قد اقتربت، فهي حية كصمام أمان لحماية الحقوق والحريات وعلى رأسها الحق في الحياة آمنة والهادئة. وأي مساس بهذا الحق، يستدعي منها أن تطور من مناعتها ضده. وحتى أرفع اللبس والغموض على القارئ الكريم، أقول إن ما دفعني للكتابة في هذا الموضوع هو ما يعيشه العالم اليوم، ونعيشه أيضا في ظل رهاب الشبح البيولوجي أو المرض الأسود، فيستحيل اليوم السير في الشارع أو المدينة دون خوف وتوجس من وباء “كورونا”. يستحيل أن تستمع للمذياع أو تطالع صحيفة معينة أو تشاهد قناة تلفزية دون حديث عن هذا الوباء المستطير. إعلانات من كل حجم، وبكل لغات العالم.
لاشك أن هذه الفزاعة غير المرئية لم تكن وليدة الصدفة، بل هي حصاد تجارب علمية تختلف الغاية منها، حسب نيات أصحابها، حتى لا نكون متهمين في شيء الدراسات والتجارب والبحوث العلمية الطبية، التي قدمت خدمات جليلة للإنسانية وما تزال. ولكن دعونا نتساءل، وبشيء من الفضول وأيضا بنوع من التوجس والخوف على حق الإنسان في الحياة الذي يكون محله الاعتداء من قبل شخص آخر مصاب بهذا الفيروس القاتل، أليس من حق من ثبت الاعتداء عليه أن يطالب بتطبيق القانون على الشخص سيئ النية الذي ألحقه به؟
أليس من المؤكد أن القانون الجنائي، هدفه من تجريم بعض الأفعال التي تصيب حق الإنسان في سلامته الجسدية، الحفاظ على مستواه الطبيعي العادي من الصحة والتكامل الجسدي؟، أليس كل فعل ينتقص من مادة الجسم يعد اعتداء على سلامته، سواء كان ذلك بإحداث ألم لم يكن موجودا من قبل أو الزيادة من مقدار ألم كان المجني عليه يعانيه؟.
هذه التساؤلات وغيرها راودتني وأنا أتابع على مواقع التواصل الاجتماعي فيديوهات منها ما يسجل قيام بعض الأشخاص بنفث الهواء على بعض الأطعمة في أحد المحلات التجارية، وآخر يضع لعابه على الأعمدة والأقنعة الموضوعة رهن إشارة الأشخاص ببعض الحافلات العمومية، وشخص يضع مخاط أنفه على مقابض فتح سيارة أشخاص آخرين وغيرها من الحالات.
وسواء كانت هذه الحالات مؤكدة أو مفترضة، فينبغي لنا بالتأمل افتراضها حكما للقول إنها تعد محاولة ارتكاب جناية في بعضها، إن لم تكن جريمة مستقلة بذاتها، بوصفها اعتداء على حق الإنسان في سلامته الجسدية بأي فعل من شأنه الإخلال بالسير الطبيعي لأعضاء الجسم، سواء كان بانتقاص في الوظائف الحيوية لبعض الأعضاء أم لا، نجم عنه ألم بدني أو لم ينجم، فإنه بهذا الوصف يمكن إلحاقه ضمن الجرائم العمدية.
وعليه، فوجود إنسان ضحية نقل عدوى وباء “كورونا” يعد عنصرا جوهريا للقيام بهذه الجريمة، لأن الصفة الإنسانية محل اعتبار كبير لهذه الجريمة، كما هو الشأن في جرائم الاعتداء على الأشخاص بما في ذلك القتل العمد أو محاولته.
قد يختلف معي البعض وقد يتفق، وهذا أمر طبيعي يعلمه الجميع لأن لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، ولكن هذا لا يجب أن يثنينا عن البحث عن سند قانوني، يمكن من خلاله توصيف حالة قيام شخص مصاب بالعدوى بنقلها إلى شخص آخر غير مصاب إما عمدا أو بالخطأ؟
وعلى هذا المستوى يمكن طرح فرضيات لتحديد طبيعة ونوع جريمة نقل العدوى من شخص لآخر في ثلاث صور أو فرضيات:
الفرضية الأولي:
لنقل إنها جريمة قتل حسب مقتضيات الفصل 392 من القانون الجنائي المغربي الذي جاء فيه ما يلي: “كل من تسبب عمدا في قتل غيره يعد قاتلا، ويعاقب بالسجن المؤبد..”.
والعناصر التكوينية لهذه الجريمة الجنائية هي:
– فعل مادي يتمثل في القيام بعمل من شأنه أن يؤدي إلى الموت.
– أن الضحية إنسان.
– النية الإجرامية.
– فالفعل المادي: هو أن تظهر الإرادة في القيام بأعمال دون اعتبار للوسائل المستعملة في ذلك، فيكفي أن يقوم الفاعل بعمل ينتج عنه الموت بأي طريقة كانت.
– أن الضحية إنسان : ذلك أن القتل في موضوعه يعني القضاء على حياة إنسان أيا كان هذا الإنسان، فكل إنسان مهما كان أصله أو سنه أو حالته الصحية له الحق في الحياة دون أي تمييز من أي نوع.
– النية الإجرامية: وتظهر بصفة عامة في أن الفاعل ارتكب الفعل من أجل قتل الغير، وعن علم منه بأن الموت سينتج عن فعله.
ومن خلال الأركان أعلاه يتضح أن جريمة القتل، تختلف عن جريمة نقل عدوى فيروس “كورونا” لأن هذا الأخير يتطلب مدة زمنية قد تقصر أو تطول لتسبب وفاة المجني عليه، في حين أن جريمة القتل العمل من جرائم النتيجة التي تتطلب إزهاق روح المجني عليه، وبذلك لا يمكن تصور انطباق شروط جريمة القتل العمد على جريمة نقل عدوى فيروس كورونا.
– الفرضية الثانية:
في مقابل أزمة هذا النص القانوني نتجه إلى فرضية أخرى مؤداها، مدى اعتبار فعل نقل عدوى فيروس “كورونا” من جرائم القتل الخطأ استنادا إلى نص الفصل 432 من القانون الجنائي، الذي وضع عقوبات لكل من ارتكب بعدم تبصره، أو عدم مراعاته النظم والقوانين قتلا غير عمدي أو تسبب فيه من غير قصد.
وهذه الفرضية هي الأخرى تماثل جريمة القتل العمد من حيث النتيجة التي هي فقدان حياة بشرية، أما الاختلاف بينهما فهو هام جدا، لأن الفعل الذي يعاقب عليه الفصل 432، أيا كانت ظروفه ليس عمديا ولم يكن الفاعل يريده.
* أستاذ العلوم الجنائية بجامعة القاضي عياض