جديد24سلايدر

إلى أين يفضي صراع المؤسسات في تونس؟

بلال التليدي

كاتب وباحث مغربي

كما كان توقعنا من قبل، نالت حكومة الكفاءات التونسية الثقة من مجلس النواب، وبدل أن تكون الثقة عنوانا لمرحلة جديدة يتم فيها تجريب صيغة سياسية لتفادي الفشل الحكومي، اندلع على أعقابها صراع مؤسساتي حاد بعد تصريحات الرئيس التونسي، التي أعلن فيها الحرب على الأحزاب السياسية. كانت المؤشرات الظاهرة تشي بصراع خفي أملته طبيعة النظام السياسي في تونس، والذي يمزج بين الرئاسي والبرلماني مع غلبة هذا الأخير، إذ حاول الرئيس أن يستثمر الأزمة المتكررة التي نتجت عن سقوط الحكومات الحزبية بشكل متوال، ليستعيد المبادرة، ويعلن بأن الحل السياسي في تونس، يكمن في حكومة من خارج الأحزاب، وأن الصراعات التي تمزق الحقل السياسي في تونس، سترهن مستقبل البلاد، وتعيق النهوض بالوضعية الاقتصادية والمالية والاجتماعية، وأنه ليس ثمة حل سوى حكومة كفاءات مدعومة برلمانيا حتى وهي لا تمت بصلة للأحزاب السياسية.
في البدء، بدا موقف الرئيس التونسي، كما ولو كان يصارع طواحين الهواء، فلا هو يمتلك قاعدة من أحزاب سياسية يمكن أن يستند إليها لدعم حكومة المشيشي، ولا هو يمتلك صلاحيات دستورية يعدل موازين القوى لصالحه في مواجهة تغول الأحزاب. لكن مع توالي الأيام، بدأت تظهر التمايزات في الموقف الحزبي، وتبين أن «النهضة» التي تمتلك القوة السياسية الأولى، ويمكن لها إسقاط الحكومة بتحالفاتها، ستكون بهذا التصرف مسؤولة عن الذهاب بالبلاد إلى المجهول ما دامت الانتخابات التشريعية المبكرة، الخيار الأسوأ.
والمثير للموقف أن الرئيس التونسي، وهو الذي يفتقد الأوراق التي تساعده على منح الثقة البرلمانية لحكومة المشيشي، كان يمضي بكل ثقة، ويعقد المشاورات، وكأنه يعلم مسبقا أن «النهضة» التي دائما ما كانت تمارس دور اللاعب السياسي الذي يحصن التجربة ويضمن الوفاق، لن يكون بإمكانها أن تقوم بشيء آخر غير ما اعتادت عليه، حتى وهي بهذا الموقف، تضع الحبل على عنقها، وتعطي للرئيس طرفه ليجرها كيف يشاء.
لم يكن للأحزاب السياسية التونسية التقدير نفسه، ففي مقابل الموقف الرافض لمنح الثقة لحكومة المشيشي، وإلى جانب من بادر لتأييدها بحجة أن الحكومات الحزبية لم تستطع أن تضمن استقرارا سياسيا بتونس، كان هناك طرف ثالث وسط، مثله حزب «النهضة» كان يعلن من حيث المبدأ، رفض حكومة من خارج الأحزاب بحجة أن ذلك يسير عكس التجربة الديمقراطية التي تقوم على الأحزاب التي اختارها الشعب، لكنه اصبح في حكم المضطر لتأييد هذه الحكومة خوفا من تداعيات إسقاط الحكومة وتحميلها مسؤولية جر تونس لطريق المجهول، ما دام الدستور لا يتيح في هذه الحالة سوى خيار واحد هو انتخابات تشريعية مبكرة تعتبر «النهضة» أنه يمثل الخيار الأسوأ.
قبل منح الثقة للحكومة، كانت للرئيس مشاورات رئيسية، كان أهمها لقاؤه بزعيم «النهضة» السيد راشد الغنوشي، وكان واضحا أن هذا اللقاء الحاسم هو الذي يحدد مستقبل حكومة المشيشي، وكان المفترض، أن يكون موقف الرئيس عقب تأييد «النهضة» لحكومة المشيشي، متناسبا مع تغيير «النهضة» لموقفها، ودعمها لحكومة المشيشي، لكن الذي حصل هو العكس، أي في اللحظة التي نالت فيها حكومة المشيشي الثقة، فجر الرئيس قيس السعيد الصراع، ووجه المدفع للأحزاب السياسية. مرة أخرى، سيبدو في الظاهر أن الرئيس يخوص حربا دانكشوتية ثانية، إذ في الوقت الذي يرجى فيه أن تنصلح علاقة حكومة المشيشي بالأحزاب، وأن تعمل على ضمان تأييدها حتى لا تبقى تحت رحمتها، يعض الرئيس اليد التي أعانته في منح الثقة لحكومته، التي عين بنفسه رئيسها من خارج اقتراحات الأحزاب.
تبدو في الظاهر الحرب دانكشوتية من جانب الرئيس، لكن الأمر مرة ثانية ليس بهذه الصورة، فالمرجح أن اللقاء الذي عقده مع الشيخ راشد الغنوشي، تضمن تفاهمات وربما شروطا تم التعهد بها لمنح الثقة لحكومة المشيشي، وأن الرئيس قبل هذه الشروط وخضع لها حتى تنجح الحكومة في نيل الثقة، وأنه حالما حصل ذلك، بدأت معركة موازين القوى بين ألأحزاب التي تريد أن تبقى الحكومة تحت رحمتها، وبين الرئيس، الذي يريد أن يحرر حكومته غير الحزبية من ضغط الأحزاب.
ولئن الرئيس لا يملك ـ كما في السابق ـ اية أوراق للضغط على الأحزاب لتحرير حكومته، إذ لا وجود لأحزاب مساندة تضع بيضها كله في سلته، وحتى الأحزاب التي قررت ذلك بتقدير سياسي يتعلق باستقرار تونس وحاجتها للخروج من المأزق الاقتصادي والمالي والاجتماعي، لا تملك أي كتلة وازنة دستوريا، فإنه لجأ إلى الخيار الثوري، أي استعمال الشعب أو الشعبوية لاستمالة الشعب ضد الأحزاب السياسية، حتى يبتزها ويكرهها على البقاء دائما في موقع المساند لحكومة المشيشي.
واضح من لغة التهديد التي استعملها الرئيس، والتي تجاوزت منطق التشنج ورد الفعل الآني، أن الأمر مدروس، ويراد به تشغيل أوراق أخرى في الضغط على الأحزاب، وذلك باستحضار البعد الشعبي والثوري، فالرئيس الذي لا يملك إلا خيارات جد ضيقة لجعل موازين القوى لصالحه في مواجهة نظام برلماني، لجأ إلى سلاح محاكمة الحكومة شعبيا، من خلال التهديد بإخراج ملفات عن الأحزاب، وممارساتها في الشهور الماضية، متوعدا بالتشهير بها على خلفيات مختلفة، مالية (صفقات) وسياسية (لم يفلعوا أي شيء سوى تقديم الوعود الكاذبة) ووطنية. مؤكد أن هذه اللغة ستدخل الحقل السياسي التونسي على توتر جديد، وستجعل مهمة المشيشي جد صعبة، لاسيما أن أتى موقف الأحزاب السياسية برد فعل مماثل، لكن، في الجوهر، هذا التوتر العلني، ما هو في الواقع سوى عملية استدامة للتوتر وتطور مستوياته بين المؤسسات، وبشكل خاص، بين الرئيس وبين البرلمان، وأن الرئيس استثمر بشكل ذكي واقع الحكومات الحزبية التي تساقطت الواحدة تلو الأخرى، واستثمر تراجع ثقة الشعب في الأحزاب السياسية، ليستعمل سلاح محاكمة الشعب للأحزاب كورقة سياسية لتأمين استمرار حكومة المشيشي.
ومهما يكن، فسواء كان سلاح الرئيس قويا في إكراه الأحزاب على إسناد حكومة المشيشي أم كان غير ذلك، فالأمر، في الجوهر، هو أكبر من مؤسسة الرئيس، وربما يرتبط بالدولة التونسية، وتفاعلها في سياقها الإقليمي، وحاجتها للاستجابة للضغط الإقليمي لتحرير نفسها من الإكراهات الاقتصادية والمالية التي لم تستطع حكومات ما بعد الثورة مواجهتها، وأن مواجهة الأحزاب في الجوهر، هو عملية ذكية للالتفاف على الهدف الرئيسي المتمثل في إخراج النهضة من مربع الحكم وإضعافها حتى في مربع المعارضة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المثمر
زر الذهاب إلى الأعلى