الجهوية المتقدمة بين رهانات البناء وتحديات التنزيل.

د. امحمد أقبلي
1. مقدمة
لا بد من القول إن هذا الموضوع يستفز خجلي العلمي وفضولي الأكاديمي، لأنه يرتبط بمسار طالما اعتبرته شخصياً حياتي قبل أن يكون مجرد مادة بحثية. إن الحديث عن الجهوية المتقدمة اليوم لا ينفصل عن التساؤلات الملحّة التي تعترض طريقنا: بين ما تحقق وما لم يتحقق، بين النصوص والواقع، وبين الطموح الكبير لورش ملكي استراتيجي والبطء الذي يهدد أحياناً بإفراغه من روحه.
لقد قال جلالة الملك محمد السادس في خطاب عيد العرش لسنة 2025:
“لا مكان اليوم ولا غداً لمغرب يسير بسرعتين: مغرب يستفيد من ثمار التنمية، ومغرب يظل متأخراً عن ركبها.”
وهنا يبرز السؤال المركزي الذي يستفزنا جميعاً كباحثين وممارسين وصناع قرار: كيف يمكن أن نجعل الجهوية المتقدمة أداة فعلية للعدالة المجالية والإنصاف الترابي، خاصة في المجال الجبلي؟
2. الإشكالية المركزية
عنوان المداخلة: “الجهوية المتقدمة بين رهانات البناء وتحديات التنزيل” يفترض وجود مستويين متوازيين:
– رهانات البناء: تتعلق بالتأصيل الدستوري (الفصل 136 وما يليه)، بالقوانين التنظيمية، بإرساء مؤسسات الجهات، وباعتماد مبادئ التدبير الحر، التفريع، والتعاون.
– تحديات التنزيل: ترتبط ببطء نقل الاختصاصات، ضعف التمويل، غياب العدالة في توزيع الموارد، استمرار المركزية المقنّعة، وضعف حكامة المشاريع المهيكلة.
> الإشكالية المحورية: كيف نضمن انتقال الجهوية من مجرد شعار دستوري إلى أداة فعلية للتنمية المجالية المندمجة، مع مراعاة الخصوصية الجبلية المغربية وتجارب المقارنة الدولية؟
3. المؤشرات الوطنية والدولية
– مؤشر التنمية البشرية (PNUD): المغرب تقدم إلى المرتبة 123 سنة 2023، لكن الفوارق المجالية بقيت صارخة (المجال الحضري مقابل الجبلي/القروي).
– مؤشر البنية التحتية (WEF 2024): المغرب تحسن في الطرق السريعة والموانئ، لكنه سجل ضعفاً في ربط المناطق الجبلية (خنيفرة، ميدلت، الحسيمة).
– المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي (CESE): دعا في تقاريره إلى اعتماد “قانون إطار لتنمية المجال الجبلي”، مبرزاً أن أكثر من 17% من السكان يعيشون في مناطق جبلية هشّة.
4. الجبل كفضاء للتنمية المعلّقة
إقليم خنيفرة، قلب جهة بني ملال – خنيفرة، يمثل نموذجاً صارخاً لـ”المغرب بسرعتين”. فرغم غناه الطبيعي (غابات الأرز، وديان، مياه)، إلا أنه يعاني:
– ضعف البنية التحتية الطرقية (عزلة الدواوير شتاءً).
– هشاشة القطاعات المنتجة (الفلاحة التقليدية والرعي).
– ضعف الاستثمار في السياحة الجبلية.
– هجرة الشباب نحو المدن أو الخارج.
في خطاب جلالة الملك (20 غشت 2018):
> “لا يمكن لأي سياسة عمومية أن تنجح إذا لم تأخذ بعين الاعتبار واقع الجبل، وما يعيشه من هشاشة وإقصاء، وحاجة دائمة إلى ربطه بباقي التراب الوطني.”
5. رهانات وآليات مقترحة
– قانون الجبل: ضرورة التسريع بإخراج قانون إطار يضمن التمييز الإيجابي للمناطق الجبلية.
– وكالة تنمية المناطق الجبلية: على غرار وكالات الشمال والجنوب، لتأطير المشاريع الكبرى.
– مرصد الجبل: لمتابعة المؤشرات التنموية وإعداد تقارير سنوية للبرلمان والحكومة.
– فك العزلة: عبر برنامج خاص للطرق القروية والجبلية.
– الابتكار والتشغيل: دعم التعاونيات، سلاسل القيمة الفلاحية (الأغنام، الزربية الزيانية، العسل الجبلي)، وتشجيع السياحة البيئية.
6. التجارب المقارنة
– إسبانيا: التجربة الكطلانية اعتمدت “التنمية متعددة السرعات”، مع تمويلات أوروبية موجهة للمناطق الجبلية.
– فرنسا: قانون “التنمية الجبلية” لسنة 1985، الذي اعتمد مقاربة مدمجة تراعي السكن، النقل، الفلاحة، والسياحة.
– إيطاليا: سياسة “Territorial Cohesion” التي استهدفت مناطق الأبينين الجبلية ببرامج تنشيط اقتصادي.
→ الخصوصية المغربية تكمن في الجمع بين التعدد الإثني (الأمازيغ/العرب) والامتداد الترابي الشاسع، مما يتطلب حلولاً أصيلة غير منقولة حرفياً.
7. الخاتمة والأسئلة المفتوحة
إن ورش الجهوية المتقدمة هو امتحان سياسي، مؤسساتي، وترابي.
– هل نحن أمام بطء بنيوي أم أمام زمن تأسيسي طبيعي لمثل هذه الأوراش الكبرى؟
– كيف ننتقل من الجدل الأكاديمي والسياسي إلى التنفيذ الميداني الملموس؟
– وكيف نحول الخجل الأكاديمي والفضول العلمي إلى قوة اقتراحية وسياسات عمومية ناجعة؟
> كما قال جلالة الملك محمد السادس: “إن التنمية إما أن تكون شاملة ومتوازنة، أو لا تكون.”
هنا، يصبح النقاش العلمي ليس ترفاً فكرياً، بل مساءلة للحضور السياسي والمؤسساتي، ونقداً بنّاءً لاستفزاز الواقع في أفق تغييره.