جديد24

الهوية والمواطنة في زمن العولمة: قراءة متقاطعة في مسار المجتمع المغربي بين الاعتراف والمحاسب

بقلم: الدكتور امحمد أقبلي
(جميع الحقوق الفكرية محفوظة – 2025)

🔹 ملخص تحليلي

يقدّم هذا المقال قراءة فكرية متقاطعة في مسار المجتمع المغربي، تجمع بين السوسيولوجيا والفلسفة السياسية وعلم الاجتماع الثقافي، في سعيٍ لفهم التحولات القيمية التي تمس العلاقة بين الهوية والمواطنة والتنمية في المغرب المعاصر.

ينطلق الدكتور امحمد أقبلي من إشكالية جوهرية مفادها أن بناء الدولة الحديثة لا يتحقق فقط بوجود المؤسسات، بل بترسيخ وعيٍ مواطني ناضج يوازن بين ثقافة الاعتراف وثقافة المحاسبة.

فالتصفيق للمسؤولين لا يُعد خطأً بحد ذاته، لكنه يتحول إلى سلوكٍ مَرَضي حين يُستخدم بديلاً عن النقد والمساءلة. وهنا يقترح الكاتب تجاوز ثنائية “التمجيد أو الإنكار” نحو ثقافة مدنية راشدة تعترف بالجهد وتراقب الأداء في آن واحد.

كما يؤكد المقال أن الهوية المغربية، بتعدد روافدها التاريخية والثقافية، ليست عائقاً أمام التحديث، بل رافعة حضارية متى تم إدماجها في مشروع وطني جامع ومنفتح على الكونية دون ذوبان.

ويخلص المقال إلى أن جسر الهوة الاجتماعية بين المركز والهامش يظل أساس كل إصلاح، وأن مستقبل المغرب رهين بقدرته على بناء هوية وطنية منفتحة ومواطنة نقدية مسؤولة، تؤمن بأن الاعتراف لا يتناقض مع المحاسبة، بل يؤسس لها.

في خضم التحولات الاجتماعية والسياسية التي يشهدها المغرب والعالم، تتصدر الهوية والمواطنة واجهة النقاش العمومي كأحد أهم مفاتيح فهم التحول المجتمعي. فالهوية لم تعد مجرّد انتماء ثقافي أو رمزي، بل أصبحت سؤالًا وجوديًا يتقاطع مع السياسة والاقتصاد والتربية والقيم. أما المواطنة، فلم تعد مفهوماً قانونياً جامداً، بل فضاءً أخلاقيًا يُقاس فيه نضج المجتمع بمدى قدرته على الجمع بين الحرية والمسؤولية.

من هنا تبرز الإشكالية المركزية: كيف يمكن للمجتمع المغربي أن يوفق بين الاعتراف بالإنجاز واحترام الواجب، بين التقدير والمحاسبة، في ظل التحولات القيمية والثقافية المتسارعة؟

أولاً: من ثقافة التصفيق إلى ثقافة الوعي – المواطنة بين الامتنان والمساءلة

في بنية الدولة الحديثة، تُعتبر المواطنة علاقة متبادلة تقوم على الحق في الخدمات والواجب في المراقبة والمحاسبة. غير أن الخطاب الاجتماعي المغربي لا يزال يحمل بقايا من ثقافة الامتنان التي ترسخت عبر عقود من التلقي الأبوي للقرار العمومي.

إن التصفيق لمسؤولٍ أنجز مشروعاً من المال العام لا يُعد خطأً في ذاته، بقدر ما يعكس خللاً في التمثّل الجماعي للمسؤولية. فالمواطن لا يصفق لالتزام قانوني، بل يعبر عن عطشٍ رمزي إلى الفعل الإيجابي في فضاءٍ تعوّد على البطء والتقصير.

غير أن التحول نحو دولة المواطنة لا يتحقق إلا بانتقال الوعي من الاحتفاء بالفعل إلى تقويم أثره. فالتقدير لا يلغي المساءلة، بل يجعلها أكثر إنصافاً؛ إذ لا يُحاسب إلا من يُعترف له أولاً بالجهد.

في هذا المعنى، يمكن القول إن ثقافة الاعتراف هي الوجه النبيل للمحاسبة، بينما ثقافة التصفيق الأعمى تفرغها من معناها الأخلاقي والسياسي.

ثانياً: الهوية المغربية بين الأصالة والتحديث – جدلية الذات والآخر

تتسم الهوية المغربية بثراءٍ وتعددٍ استثنائيين؛ فهي هوية متجذّرة في الأصالة الأمازيغية والعربية الإسلامية، متفتحة على البُعد الأندلسي والمتوسطي والإفريقي. غير أن هذه الغنى نفسه جعلها عرضةً لتجاذبات حادة مع صعود العولمة الثقافية التي تسعى إلى فرض نموذج ثقافي موحد يختزل الخصوصيات في قوالب استهلاكية.

إن الإشكال ليس في الانفتاح، بل في الذوبان غير الواعي الذي يفرغ الذات من مضمونها ويجعلها تابعاً بلا مشروع.

من منظورٍ سوسيولوجي، يمكن القول إن المجتمع المغربي يعيش مرحلة “إعادة تعريف الذات” أمام تحديات الحداثة، حيث تتواجه تيارات ثلاثة:

تيار تقليدي يستند إلى الأصالة والمرجعية الدينية.

تيار حداثي يرى الخلاص في القطع مع الماضي.

وتيار ثالث، وهو الأعمق، يسعى إلى تركيب وطني بين الأصالة والتحديث، يرى في الهوية رصيداً للتنمية لا عبئاً على الحداثة.

إن المشروع المغربي، في أفقه الحضاري، لا يمكن أن يقوم على الرفض أو الاستنساخ، بل على القدرة على إنتاج نموذج تنموي منبثق من الذات، يعترف بالكونية دون أن يتخلى عن السيادة الرمزية.

ثالثاً: الهوة الاجتماعية كمرآة للاختلال الهوياتي

تُظهر الدراسات الاجتماعية الحديثة أن العلاقة بين الهوية والتفاوت الطبقي علاقة عضوية، لأن الإقصاء الاجتماعي يخلق انفصالاً وجدانياً عن الوطن، فيفقد الفرد إحساسه بالانتماء.

وفي الحالة المغربية، لا يزال التفاوت بين المركز والمحيط، وبين النخب والفئات الهشة، أحد أهم عوامل تآكل الثقة في الدولة.

إن العدالة الاجتماعية ليست مطلباً اقتصادياً فحسب، بل هي شرط وجودي للمواطنة، إذ لا يمكن الحديث عن هوية جامعة في ظل فوارق صارخة في التعليم والصحة والعيش الكريم.

وهنا تبرز الحاجة إلى عقد اجتماعي جديد يعيد ترتيب العلاقة بين المواطن والدولة على أساس الكرامة والعدالة والمشاركة.

فمن دون تقليص الهوة الاجتماعية، ستظل الهوية مجالاً للخطاب لا للعيش المشترك، وستبقى المواطنة فكرة معلقة بين المثال والواقع.

رابعاً: نحو مقاربة متقاطعة بين الهوية والتنمية والمواطنة

ينبغي التعامل مع مسألة الهوية والمواطنة من منظور مقاربة متقاطعة تجمع بين الفكر الفلسفي، والتحليل السوسيولوجي، والرؤية السياسية.

فمن الناحية الفلسفية، تُمثل الهوية سؤال المعنى، ومن الناحية الاجتماعية سؤال العدالة، ومن الناحية السياسية سؤال المشاركة والمحاسبة.

إن بناء المواطنة في المغرب لا يمر فقط عبر الإصلاح القانوني، بل عبر إصلاح الوعي الجماعي، وإعادة الاعتبار لقيمة العمل العام باعتباره مسؤولية لا امتيازاً.
وعليه، فإن المطلوب ليس كسر ثقافة التصفيق، بل ترشيدها لتصبح تعبيراً عن الاعتراف بالمواطنة الفاعلة لا الخضوع السلبي.

المجتمع المتوازن هو الذي يُكرّم المخلص ويُحاسب المقصّر، لأن التنمية المستدامة ليست مجرد بناء الحجر، بل بناء الإنسان الذي يعي دوره في صون كرامته وكرامة وطنه.

خاتمة مفتوحة: بين الاعتراف والمساءلة… بناء المغرب الممكن

المغرب اليوم أمام مفترق طرق حضاري. إما أن يواصل السير بثقافة الانبهار والانفعال، أو أن يؤسس لمرحلة جديدة تقوم على العقل النقدي، والوعي المدني، والإرادة المشتركة في بناء وطنٍ عادلٍ ومنفتحٍ في آن واحد.

فالهوية ليست شعاراً سياسياً، بل بنية أخلاقية حية، والمواطنة ليست بطاقة تعريف، بل عهد مسؤول بين المواطن والدولة.

وحين يصبح التقدير شكلاً من أشكال الوعي، والمحاسبة ممارسةً يوميةً راقية، عندها فقط يمكن أن نقول إن المغرب قد خطا نحو الحداثة المتصالحة مع نفسها؛ حداثة تعترف بالجهد، وتحاسب التقصير، وتبني مشروعاً وطنياً بثقة ووعي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المثمر
زر الذهاب إلى الأعلى