الهامش السياسي في الدولة الحديثة: قراءة في أزمة الفعل الحزبي

بقلم: الدكتور امحمد أقبلي
رئيس جماعة أجلموس
لم تعد أزمة الأحزاب السياسية في المغرب قابلة للاختزال في تراجع التنظيم أو ضعف الخطاب أو العزوف الانتخابي. فهذه التفسيرات، على شيوعها، لم تعد كافية، بل تحوّلت في كثير من الأحيان إلى خطاب تبريري يُخفي السؤال الجوهري:
هل استنفدت الأحزاب فعلًا كل ما يتيحه الهامش المتاح لها داخل النظام السياسي، أم أنها تخلّت عنه طوعًا؟
إن الخطاب الذي يعلن، بلهجة قطعية، “موت السياسة” أو “انتهاء زمن الأحزاب”، لا يعكس قراءة علمية للواقع بقدر ما يعبّر عن عجز تحليلي وكسل سياسي. فالسياسة لا تختفي لمجرد تضييق مجال الفعل، بل تعيد تموضعها داخل شروط جديدة، أكثر تعقيدًا وأقل رومانسية. ومن يرفض الاشتغال داخل هذه الشروط، لا يعلن نهاية السياسة، بل يعلن انسحابه منها.
تشتغل الأحزاب اليوم داخل بنية دولة حديثة كثيفة: إدارة ترابية متضخمة، ترسانة قانونية متشعبة، تقاسم دقيق لمجالات القرار، وتحول متزايد من منطق الحكم السياسي إلى منطق التدبير العمومي. هذا السياق يفرض هامشًا محدودًا للفعل الحزبي، لكنه في المقابل يوفّر مجالات اشتغال حقيقية لمن يمتلك الكفاءة والإرادة: التشريع، المراقبة البرلمانية، إنتاج النخب، التأطير المجتمعي، والتراكم داخل المؤسسات.
غير أن الإشكال لا يكمن في ضيق الهامش، بل في التحايل عليه خطابياً. إذ تُفضّل بعض الأحزاب تحويل السياق إلى شماعة دائمة، وتقديم نفسها كضحية لبنية لا تُقهر، بدل مساءلة أدائها الداخلي، ونوعية نخبها، وانتظام مؤسساتها، وقدرتها على الاشتغال الجاد داخل الممكن. وهنا يتحول “التحكم” من مفهوم تحليلي إلى مبرر شامل للشلل السياسي.
وفي مقابل هذا العجز، يُروَّج لوهم آخر لا يقل خطورة: أن الشبكات الاجتماعية أو المجتمع المدني قادران على تعويض الوظيفة الحزبية. والحال أن هذا الطرح، مهما بدا جذابًا، يفتقر إلى أي أساس مؤسسي. فالتفاعل الرقمي لا يُشرّع، والاحتجاج لا يُدبّر سياسات عمومية، والمبادرات المدنية، على أهميتها، لا تتحمل مسؤولية القرار العمومي. الوساطة السياسية ليست وظيفة قابلة للتفويض.
إن ما نعيشه اليوم ليس خصوصية مغربية، بل هو جزء من أزمة عالمية للديمقراطية التمثيلية، حيث تراجعت الثقة في المؤسسات الوسيطة، دون أن تظهر بدائل قادرة على أداء وظائفها. غير أن الفارق بين التجارب لا يكمن في وجود الأزمة، بل في كيفية تدبيرها. فبينما اختارت نخب حزبية في تجارب مقارنة إعادة بناء مشروعها داخل القيود، فضّلت أخرى انتظار لحظة سياسية مثالية لا وجود لها في الواقع.
الرهان الحقيقي، إذن، ليس توسيع الهامش قبل استنفاده، ولا رفع سقف الخطاب قبل ترسيخ الممارسة، بل إعادة تعريف السياسة بوصفها عملاً تراكميًا داخل القيود. فالأحزاب التي تشتغل بجدية داخل الهامش المتاح، هي وحدها القادرة على الدفع نحو توسيعه. أما تلك التي تنتظر هامشًا جديدًا دون فعل، فليست ضحية السياق، بل ضحية اختياراتها.
السياسة لا تموت حين تُحاصَر،
بل حين يُترك الهامش فارغًا.
ومن هنا، فإن إنقاذ الفعل الحزبي لا يمر عبر خطاب النواح على الديمقراطية، ولا عبر الحنين إلى ماضٍ سياسي متخيَّل، بل عبر مساءلة صارمة للأداء الحزبي، وتجديد أدوات الاشتغال داخل المؤسسات، وتحمل كلفة السياسة كما هي، لا كما نرغب أن تكون.


