جديد24

مشروع القانون 59.24 للتعليم العالي: بين منطق الإصلاح ومخاوف التحوّل الصامت في وظيفة الجامعة

بقلم: د. امحمد أقبلي – رئيس جماعة أجلموس

صادقت لجنة التعليم والثقافة والاتصال بمجلس النواب، بالأغلبية، على مشروع القانون رقم 59.24 المتعلق بالتعليم العالي والبحث العلمي، بعد مسار تشريعي اتسم بكثافة النقاش وحدّة الجدل، وهو أمر مفهوم بالنظر إلى حساسية القطاع ومركزيته في أي مشروع مجتمعي ديمقراطي وتنموي.

ولا يمكن قراءة هذا المشروع خارج إطاره المرجعي، باعتباره تنزيلًا تشريعيًا لمقتضيات القانون الإطار رقم 51.17 المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، ولا خارج السياق العام للإصلاحات البنيوية التي تعرفها الدولة المغربية في مجالات الحكامة، التمويل، وربط المسؤولية بالمحاسبة. غير أن السؤال الجوهري يظل قائمًا: هل نحن أمام إصلاح حقيقي يعيد للجامعة العمومية دورها الاستراتيجي، أم أمام إعادة ترتيب قانوني قد يُفضي، بشكل غير معلن، إلى تحوّل في فلسفة التعليم العالي ووظيفته الاجتماعية؟

أولًا: فلسفة النص بين الإعلان المبدئي والرهانات الضمنية

يقدّم مشروع القانون 59.24 نفسه كنص مؤسس لسياسة عمومية متكاملة في مجال التعليم العالي والبحث العلمي، من خلال تحديده للتوجهات العامة، وهيكلة المنظومة، وآليات الحكامة، والهندسة البيداغوجية واللغوية، ومصادر التمويل، وآليات التتبع والتقييم، فضلًا عن التنسيق مع باقي مكونات منظومة التربية والتكوين.

غير أن القراءة المتأنية للنص تكشف وجود توتر بنيوي بين خطاب دستوري يُؤكد التزام الدولة بضمان الولوج العادل والمجاني إلى التعليم العالي، وبين مقتضيات تنظيمية تفتح المجال، تدريجيًا، أمام منطق التدبير المالي والنجاعة الاقتصادية، بما قد ينعكس مستقبلًا على طبيعة الخدمات الجامعية وعلى مبدأ المجانية نفسه، ولو دون التصريح الصريح برفعه.

ثانيًا: مجانية التعليم العالي… سؤال مؤجَّل لا مُجاب عنه

أحد أكثر “النقاط الشائكة” التي فجّرت النقاش داخل اللجنة البرلمانية تمثّل في مبدأ مجانية التعليم العالي. ورغم تأكيد الوزير الوصي، في أكثر من مناسبة، أن المشروع لا يمس هذا المبدأ، فإن غياب نص صريح وحاسم يُكرّس المجانية كالتزام قانوني غير قابل للتأويل، يفتح الباب أمام قراءات متباينة، ويغذي التخوف من تحوّل تدريجي نحو تحميل الأسر جزءًا من كلفة التكوين، خاصة في ظل الحديث عن تنويع مصادر التمويل.

إن التجارب المقارنة تُظهر أن المساس بالمجانية لا يتم غالبًا بقرار فجائي، بل عبر مسار تراكمي يبدأ بإعادة تعريف الخدمات، ثم التمييز بين تكوين “أساسي” وآخر “متميز”، وصولًا إلى فرض رسوم تحت مسميات مختلفة. وهو ما يفرض على المشرّع الوطني أقصى درجات الوضوح والحذر.

ثالثًا: الحكامة ومجلس الأمناء… بين الاستقلالية وخطر الوصاية المقنّعة

أثار التنصيص على إحداث “مجلس الأمناء” داخل الجامعات نقاشًا واسعًا، بين من يراه آلية لتعزيز الحكامة الاستراتيجية والانفتاح على المحيط السوسيو-اقتصادي، ومن يعتبره مدخلًا محتملًا لإضعاف الاستقلالية الأكاديمية، عبر إدخال منطق القرار الخارجي إلى قلب المؤسسة الجامعية.

ولا يمكن إنكار أن الجامعة في حاجة إلى حكامة حديثة، شفافة وفعّالة، غير أن الاستقلالية الجامعية ليست ترفًا تنظيميًا، بل شرطًا معرفيًا وأكاديميًا. وأي مساس بها، ولو بدعوى النجاعة، قد يفرغ البحث العلمي من روحه النقدية، ويحوّل الجامعة إلى مجرد فضاء لإنتاج الكفاءات وفق حاجات السوق الآنية، لا وفق رهانات التفكير الاستراتيجي طويل الأمد.

رابعًا: التعليم العالي الخاص… تقنين أم تكريس للازدواجية؟

يحمل مشروع القانون مقتضيات مفصّلة تؤطّر قطاع التعليم العالي الخاص، من حيث إحداث الجامعات الخاصة، والهندسة البيداغوجية، والمصادقة على الدبلومات. ورغم أهمية التقنين في ضبط الجودة ومحاربة الفوضى، فإن التحدي الحقيقي يكمن في تفادي تكريس نظام تعليمي مزدوج: جامعة عمومية مثقلة بالإكراهات، وجامعة خاصة موجهة للفئات القادرة.

إن العدالة التعليمية لا تتحقق فقط عبر مراقبة التعليم الخاص، بل أساسًا عبر تقوية الجامعة العمومية، ماديًا وبشريًا وبحثيًا، حتى لا تتحول الخصوصية إلى بديل اجتماعي مفروض، لا إلى خيار حر.

خامسًا: حقوق الطلبة… تقدّم تشريعي يحتاج إلى ضمانات

يُحسب لمشروع القانون تخصيصه بابًا كاملاً لحقوق وواجبات الطلبة، بما يشمل الحقوق الثقافية والاجتماعية، وحرية الإعلام والتعبير داخل المؤسسات الجامعية، والخدمات الموجهة للطلبة في وضعية إعاقة. غير أن الإشكال، كما في كثير من النصوص، لا يكمن في الإعلان عن الحقوق، بل في ضمانات ممارستها الفعلية، وفي آليات حمايتها من التأويلات الإدارية أو الأمنية الضيقة.

خاتمة: أي جامعة نريد؟

مشروع القانون 59.24 ليس نصًا عاديًا، بل هو وثيقة سياسية وتشريعية تؤسس لجامعة الغد. ومن ثم، فإن النقاش حوله لا يجب أن يُختزل في منطق الأغلبية والمعارضة، بل ينبغي أن يُطرح كسؤال مجتمعي واسع:
هل نريد جامعة تُنتج المعرفة وتؤطر النقد وتخدم التنمية الشاملة؟
أم جامعة تُدار بمنطق الأرقام والمؤشرات فقط؟

إن الرهان الحقيقي لا يكمن في تمرير النص، بل في القدرة على تنزيله بروح الدستور، وبفلسفة العدالة الاجتماعية، وباستحضار الدور التاريخي للجامعة المغربية كرافعة للتحرر والتنوير والتنمية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المثمر
زر الذهاب إلى الأعلى