جديد24سلايدر

رقابة المحكمة الدستورية على قانون المسطرة المدنية بين استقلال السلطة القضائية، والفصل المتوازن للسلط، ورهانات الإصلاح التشريعي

 د. امحمد أقبلي – أستاذ جامعي، محامٍ بهيئتي الدار البيضاء وفرساي بفرنسا سابقا ، رئيس جماعة أجلموس.

مقدمة:

في خضم النقاشات الجارية حول القرار الصادر عن المحكمة الدستورية المغربية تحت عدد 255/25 بتاريخ 4 غشت 2025، المتعلق بمراقبة مطابقة عدد من مقتضيات قانون المسطرة المدنية للدستور، برزت أصوات عديدة تسعى إلى تحميل القرار أبعاداً سياسية تتجاوز مضمونه الدستوري والتقني، بل وتحاول تأويله بشكل يُسقطه في فخ الاصطفاف الحزبي والصراع المؤسسي.

غير أن قراءة هذا القرار، في ضوء التجربة الدستورية المغربية المقارنة، وتحت سقف روح الفصل الأول من الدستور الذي ينص على “ربط المسؤولية بالمحاسبة”، تفرض تحليلاً قانونياً هادئاً، يعيد التوازن إلى النقاش، وينأى به عن الشعبوية والتوظيف السياسي لمخرجات الرقابة الدستورية.

أولاً: المحكمة الدستورية ومبدأ الفصل بين السلط:

بين الضمانات الدستورية وحدود التأويل السياسي

ينص الفصل الأول من دستور 2011 على أن “نظام الحكم بالمغرب ملكية دستورية، ديمقراطية برلمانية واجتماعية”، ويؤكد على مبدأ الفصل بين السلط والتوازن بينها. وضمن هذا السياق، تُمارس المحكمة الدستورية صلاحياتها كجهاز مستقل يُمثل ضمانة لحماية سمو الوثيقة الدستورية، في وجه أي اختلال محتمل.

ولا يمكن من حيث القواعد الدستورية والفقه المقارن أن يُنظر إلى تدخل المحكمة لتصحيح بعض المواد التشريعية بوصفه انتصاراً لطرف سياسي على آخر، بل بوصفه تجلياً لدولة المؤسسات التي تحتكم إلى القانون وتخضع لمنطق الرقابة المتبادلة (Checks and Balances).

إن الحديث عن “تسييس” قرار المحكمة، أو “إدانة” السلطة التنفيذية، هو انزلاق تأويلي خطير يهدد بنزع الطابع المحايد عن مؤسسة دستورية وظيفتها الأساسية هي الوقوف على مطابقة القوانين للدستور دون تعقيب أو استغلال سياسي. 

ثانياً: القرار الدستوري بين تقنية الرقابة وضرورة التجويد

نص القرار 255/25 على عدم مطابقة أزيد من 30 مادة من قانون المسطرة المدنية للدستور، بسبب خروقات تتعلق بالحق في الدفاع، وعدم المساس بحجية الأحكام القضائية، وضمان المساواة أمام القانون. وهذا ليس أمراً جديداً أو صادماً في التجارب الدولية المقارنة.

فعلى سبيل المثال، قضت المحكمة الدستورية الفيدرالية الألمانية في عدة مناسبات بعدم مطابقة نصوص قانونية للدستور، ولم يُنظر إلى هذه الأحكام كـ”إحراج” للحكومة أو “إدانة سياسية”، بل كآلية دستورية طبيعية تندرج ضمن دورة التشريع السليمة. والأمر نفسه ينطبق على المجلس الدستوري الفرنسي الذي كثيراً ما قيد المشرّع في قضايا تتعلق بحقوق الدفاع أو مبدأ المساواة أو الأمن القانوني.

إن قرار المحكمة الدستورية في المغرب يؤشر – من وجهة نظر علمية – على مدى تطور الرقابة القضائية على العمل التشريعي، ويدفع في اتجاه التحسين المستمر لقواعد المسطرة المدنية باعتبارها أحد الأعمدة الضامنة للحق في المحاكمة العادلة.

ثالثاً: التفاعل المؤسساتي مع القرار الدستوري:

مسؤولية جماعية تتجاوز الحسابات السياسوية

بموجب الفصل 134 من الدستور، فإن قرارات المحكمة الدستورية تُلزم جميع السلطات العامة وجميع الهيئات. وبالتالي، فإن التفاعل معها يجب أن يكون قانونياً ومؤسساتياً، لا خطابياً أو انتقائياً.

من هذا المنظور، فإن مسؤولية التعديل، والمراجعة، وتحيين النصوص وفق قرار المحكمة، تظل مسؤولية مشتركة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، بعيداً عن منطق “الإدانة” أو “التنصل”، خاصة وأن المغرب اختار، منذ 2011، نموذجاً دستورياً يقوم على التوازن بين السلط، لا على تغول سلطة على أخرى.

كما أن تأويل بعض المعارضين للقرار على أنه دليل على “خرق دستوري متعمد” أو “تهميش للمعارضة” يفتقر إلى الموضوعية القانونية، إذ لا توجد أي قرينة دستورية أو مؤسسية تثبت أن الحكومة قامت بتضمين مواد غير دستورية عن قصد، بل إن عملية التشريع معقدة بطبيعتها وتتطلب تفاعلاً دائماً مع آراء الفاعلين والمهنيين والمؤسسات.

رابعاً: اجتهاد المجلس الدستوري الفرنسي:

بين الرقابة القبلية وفحص الملاءمة الدستورية

لقد شكّلت تجربة المجلس الدستوري الفرنسي (Conseil constitutionnel)، منذ إنشائه بموجب دستور الجمهورية الخامسة لسنة 1958، مرجعًا فقهيًا ومؤسساتيًا بالغ الأهمية في ضبط العلاقة بين السلط، وتأمين التوازن بين ضرورات التشريع ومبادئ السمو الدستوري.

فبموجب المادة 61 من الدستور الفرنسي، يتمتع كل من رئيس الجمهورية، رئيس الجمعية الوطنية، رئيس مجلس الشيوخ، ورئيس الحكومة، بالإضافة إلى 60 نائبًا أو 60 سيناتورًا، بصلاحية الإحالة على المجلس الدستوري قبل صدور القانون، في إطار ما يسمى بـ الرقابة السابقة (contrôle a priori)، والتي تُعد من أبرز أدوات الضبط الدستوري préalable.

وقد مارَس المجلس هذه الرقابة في عدة مناسبات، معلنًا عدم دستورية مقتضيات قانونية تتعارض مع الكتلة الدستورية (bloc de constitutionnalité)، أو تمس بمبادئ مثل حجية الأحكام القضائية (autorité de la chose jugée)، أو حق الدفاع (respect des droits de la défense)، أو مبدأ المساواة (principe d’égalité).

ووفق الفقه الفرنسي، فإن هذه الممارسة تدخل ضمن ما يُعرف بـ وظيفة الحارس الدستوري (fonction de gardien de la Constitution)، أي ضمان سمو الدستور، في إطار الحوار الدستوري (dialogue constitutionnel) بين السلط، لا في منطق الخصومة أو الغلبة السياسية.

خامساً: من باريس إلى الرباط:

نحو دسترة ثقافة الرقابة وحياد المؤسسات

إن المقارنة بين اجتهادات المجلس الدستوري الفرنسي وتجربة المحكمة الدستورية المغربية تكشف، بوضوح، أن الرقابة على دستورية القوانين ليست أداة للمواجهة بين السلط، ولا ينبغي أن تُحمَّل بتأويلات سياسية أو نوايا مضمرة، بل هي جزء من هندسة دقيقة لمبدأ الفصل المرن والمتوازن بين السلط (la séparation souple et équilibrée des pouvoirs)، يضمن أن تبقى كل سلطة في موقعها الطبيعي، دون تجاوز أو افتئات.

ومثلما يُمارس المجلس الدستوري الفرنسي سلطته في إبطال أو تعديل مقتضيات قانونية بناءً على إحالة من البرلمان أو الرئيس أو المعارضة، فإن المحكمة الدستورية المغربية أظهرت، عبر قرارها عدد 255/25، أنها تندرج في هذا المسار المؤسساتي، مستندة إلى ما قرره الفصل 132 من الدستور، وعلى ضوء كتلة الحقوق الدستورية، بما فيها حجية الأحكام القضائية، وحق الدفاع، والمساواة أمام القانون.

وبدل أن يُفهم تدخل المحكمة على أنه ردٌّ سياسي، أو تصحيح لخطإ تشريعي، فإن القراءة المؤسسية تدعونا إلى اعتباره تجسيداً لثقافة الحوار الدستوري، والتي لا تكتمل إلا بتفعيل باقي آليات الرقابة، لا سيما مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالدفع بعدم الدستورية، باعتباره أداة تعزز رقابة القاعدة من الأسفل، وتمنح المتقاضين سلطة مضافة لحماية حقوقهم.

هكذا تتقاطع التجربتان الفرنسية والمغربية في كون الرقابة الدستورية ليست آلية للعرقلة أو للمساءلة السياسية، بل ركيزة من ركائز دولة الحق والقانون، وتعبير عن نضج ديمقراطي يعترف بسمو الدستور، ويؤمن بأن التشريع يجب أن يُبنى داخل مؤسسات مستقلة، لا على منصات التأويلات الظرفية أو الاصطفافات الحزبية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المثمر
زر الذهاب إلى الأعلى