لا لمغرب يسير بسرعتين: جدلية شرعية الإنجاز وشرعية الإدماج في تجربة إقليم خنيفرة

بقلم: الدكتور امحمد أقبلي
رئيس جماعة أجلموس*
في خطاب العرش لسنة 2025، حسم الملك محمد السادس بوضوح: **«لا مكان اليوم ولا غدًا لمغرب يسير بسرعتين»**¹، مضيفًا: *«لن أكون راضيًا، مهما بلغ مستوى التنمية الاقتصادية والبنيات التحتية، إذا لم تساهم، بشكل ملموس، في تحسين ظروف عيش المواطنين، من كل الفئات الاجتماعية، وفي جميع المناطق والجهات»*². هذا التصريح الملكي ليس مجرد إعلان سياسي، بل هو إطار مرجعي للتنمية المجالية، يُلزم الدولة بربط شرعيتها بالقدرة على دمج جميع المواطنين في ثمار التقدم.
في قلب هذا النقاش يبرز إقليم خنيفرة، بعمقه الجبلي وتاريخه النضالي، كنموذج صارخ لتناقضات التنمية: إنجازات ملموسة في بعض القطاعات، يقابلها استمرار مظاهر التهميش والفوارق. وهنا تُطرح جدلية شرعية الإنجاز وشرعية الإدماج: هل تكفي المشاريع الكبرى لتعزيز الثقة، أم أن التنمية الحقيقية لا تُقاس إلا بمستوى الإدماج والإنصاف؟
أولًا: شرعية الإنجاز – الدولة كفاعل إنشائي
تُبنى شرعية الإنجاز على قدرة الدولة في إنتاج نتائج ملموسة: طرق، موانئ، مستشفيات، ملاعب، كهرباء وماء. وهو ما يشكل – بلغة ماكس فيبر – تجسيدًا لـ”العقلانية الأداتية”³. في المغرب، برز هذا التوجه من خلال مشاريع رائدة: ميناء طنجة المتوسط، محطة نور للطاقة الشمسية، الشبكة الطرقية الوطنية، والمبادرة الوطنية للتنمية البشرية.
غير أن الاقتصادي والتر روستو⁴ نبّه إلى أن البنية التحتية شرط للإقلاع، لكنها ليست ضمانة للعدالة. فالإنجاز بلا تملك اجتماعي قد يتحول إلى “جزيرة حداثة” وسط محيط من التفاوتات. هنا يكمن خطر الاعتماد المفرط على “شرعية الإنجاز” وحدها: فهي تمنح رصيدًا آنيا للدولة، لكنها تظل هشة إذا لم تتجذر في حياة المواطن اليومية.
ثانيًا: شرعية الإدماج – من الشرعية التواصلية إلى التنمية كحرية
شرعية الإدماج تقوم على إشراك المواطن في صناعة القرار والانتفاع من المشروع. هذا البعد يجد أساسه في فكر يورغن هابرماس حول “الشرعية التواصلية”⁵، حيث لا تتحقق الثقة إلا بالحوار والاندماج.
أما الاقتصادي أمارتيا سن⁶، فقد صاغ مقاربة “التنمية كحرية”، معتبرًا أن جوهر التنمية هو توسيع القدرات الإنسانية: أن يجد التلميذ مدرسة، والمريض مستشفى مجهزًا، والشاب فضاءً رياضيًا يدمجه بدل أن يهمشه.
بكلمات أخرى، شرعية الإدماج هي ما يمنح لشرعية الإنجاز معناها. من دونها، يتحول المشروع التنموي إلى مجرد صورة إعلامية، وربما إلى مصدر خيبة جديدة.
ثالثًا: خنيفرة – بين الإنجاز المحدود والإدماج الغائب
تشير الأرقام إلى حجم التحدي في إقليم خنيفرة:
– نسبة الفقر المتعدد الأبعاد بلغت 11.6% سنة 2022 مقابل 5.7% كمعدل وطني⁷.
– معدل الأمية يقارب 37% (يتجاوز 50% في القرى)⁸.
– معدل البطالة وصل إلى 27.7%، وترتفع بين النساء إلى **43%**⁹.
هذه المعطيات تُظهر أن الإنجازات المادية التي عرفها الإقليم – طرق، ملاعب قرب، مراكز صحية – لم تتحول كلها إلى إدماج فعلي للسكان.
غير أن الإنصاف يقتضي التنويه بأن عامل إقليم خنيفرة الحالي، ورغم تعيينه مؤخرًا، ينتمي إلى جيل جديد من رجال السلطة الذين يتبنون مقاربة القرب والتواصل المباشر مع الساكنة. لقد تمكن، في ظرف وجيز، من بلورة رؤية متكاملة لعدد من المشاريع ذات الأثر الاجتماعي المباشر، مما يعكس تحوّلًا في نمط الحكامة الترابية بالإقليم. هذه الدينامية تحتاج إلى دعم مؤسساتي وتمويلي حتى تؤتي ثمارها، وتتحول إلى رافعة فعلية لشرعية الإنجاز والإدماج معًا.
كما أوضح بيير بورديو¹⁰، فإن غياب الإدماج يعمّق “العزلة الرمزية”، ويجعل الإنجاز ذاته علامة على التفاوت بدل أن يكون وسيلة لتقليصه. وقد أكد المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي في تقرير 2023 أن *«الجهود التنموية لم تفلح بعد في تقليص الفوارق المجالية والاجتماعية أو خلق توازن في مساهمة الجهات في الثروة الوطنية»*¹¹، وهو ما يجعل خنيفرة مرآة للتحديات الوطنية.
رابعًا: نحو جيل جديد من التنمية – من الإنجاز إلى الإدماج
الخطاب الملكي والنموذج التنموي الجديد (2021) يؤكدان معًا أن التنمية لا بد أن تقوم على جيل جديد من المشاريع: مشاريع منصفة، مستدامة، دامجة. ويستدعي ذلك:
– أن تتحول الطرق إلى أدوات لتمدرس الأطفال وتسويق المنتجات المحلية.
– أن تُجهَّز المستشفيات بالأطر والتجهيزات لا أن تبقى بنايات رمزية.
– أن تُفتح الملاعب والفضاءات الرياضية مجانًا أمام الشباب.
– أن تُفعل الجهوية المتقدمة لتمكين الأقاليم الجبلية من موارد إضافية.
التجارب المقارنة (إسبانيا في أقاليم كاتالونيا والباسك، وكندا في كيبيك والمناطق الشمالية) أظهرت أن العدالة المجالية ليست شعارًا سياسيًا، بل بنية مؤسساتية قائمة على إعادة توزيع الموارد وضمان مشاركة الساكنة في القرار.
إن جدلية شرعية الإنجاز وشرعية الإدماج تمثل قلب معضلة التنمية في المغرب. من دون إنجازات ملموسة تفقد الدولة مصداقيتها، ومن دون إدماج يفقد الإنجاز معناه. خنيفرة، بعمقها الجبلي ورمزيتها الوطنية، تكشف أن التنمية المزدوجة لا يمكن أن تستمر: فالمغرب لا يحتمل أن يسير بسرعتين.
وكما قال الملك: **«هدفنا أن تشمل ثمار التقدم والتنمية كل المواطنين، في جميع المناطق والجهات، دون تمييز أو إقصاء»**¹². إنها دعوة سياسية وأخلاقية وعلمية في آن: لا تنمية بلا إنجاز، ولا إنجاز بلا إدماج.
الهوامش والمراجع
1. خطاب العرش، 29 يوليو 2025.
2. نفس الخطاب (الفقرة المتعلقة بربط البنيات التحتية بتحسين عيش المواطنين).
3. Max Weber, Economy and Society, 1922.
4. W. Rostow, The Stages of Economic Growth: A Non-Communist Manifesto, 1960.
5. Jürgen Habermas, Legitimation Crisis, 1973.
6. Amartya Sen, Development as Freedom, 1999.
7. المندوبية السامية للتخطيط، تقرير الفقر متعدد الأبعاد، 2023.
8. المندوبية السامية للتخطيط، الإحصاء العام للسكان والسكنى، 2024.
9. نفس المصدر.
10. Pierre Bourdieu, La Distinction, 1979.
11. المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، تقرير حول التنمية الترابية، 2023.
12. خطاب العرش، 29 يوليو 2025.
13. Joseph Stiglitz, The Price of Inequality, 2012.