أهم المستجدات في قانون المسطرة الجنائية المغربي: قراءة سريعة في القانون 03.23

بقلم : د.امحمد أقبلي
يشكل القانون رقم 03.23 المغير والمتمم لقانون المسطرة الجنائية رقم 22.01، والمنشور بالجريدة الرسمية عدد 7437 بتاريخ 8 شتنبر 2025، منعطفاً بارزاً في مسار إصلاح العدالة الجنائية بالمغرب. فالإصلاح الجديد ليس مجرد تعديل إجرائي، بل يندرج ضمن رؤية استراتيجية أعمق تتعلق بتحديث السياسة الجنائية المغربية، وجعلها أكثر ملاءمة للتحديات الوطنية والدولية.
لقد أصبح من الضروري أن تنتقل السياسة الجنائية من مقاربة تقليدية تركز على الزجر والعقاب، إلى أخرى أكثر توازناً تراعي الحقوق والحريات، وتعتمد آليات بديلة لتدبير الخصومة الجنائية. ويأتي هذا التوجه في انسجام مع ما تعرفه السياسات الجنائية الدولية من تحولات عميقة، خصوصاً في مواجهة الجرائم العابرة للحدود، مثل الإرهاب، غسل الأموال، الجريمة المنظمة، الاتجار بالبشر، والجرائم السيبرانية. ومن هذا المنطلق، فإن المغرب، عبر هذا الإصلاح، لا يكتفي بتقوية بنيته القضائية الوطنية، بل يرسخ موقعه كشريك ملتزم بالاتفاقيات الدولية، وفي مقدمتها اتفاقية باليرمو (2000) وبروتوكولاتها، واتفاقية مناهضة التعذيب (1984)، والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية (1966).
تعزيز ضمانات المحاكمة العادلة
حرص المشرع على تكريس مبادئ المحاكمة العادلة بما ينسجم مع الدستور المغربي والمعايير الدولية، من خلال تأكيد المساواة أمام القضاء، وضمان علنية الجلسات مع إمكانية الاستثناء لحماية النظام العام أو القاصرين، وإلزامية تعليل الأحكام تعليلاً شفافاً، واعتماد قاعدة تفسير الشك لفائدة المتهم. وتُعتبر هذه المقتضيات حجر الزاوية في تعزيز الثقة في القضاء وضمان عدالة نزيهة.
تكريس حضور الدفاع وتوسيع صلاحياته
من أبرز المستجدات إقرار إلزامية حضور المحامي مع الأحداث وذوي الإعاقة عند الاستماع إليهم من قبل الشرطة القضائية، والسماح للمحامي بالاتصال بموكله منذ الساعة الأولى للوضع تحت الحراسة النظرية باستثناء قضايا الإرهاب. كما خُوِّل له الاطلاع على الملف والحصول على نسخ من وثائقه، مع استدعائه قبل الاستنطاق بمدة خمسة عشر يوماً على الأقل، وتمكينه من طرح الأسئلة وتقديم الملاحظات. وبهذا يتحول الدفاع من دور شكلي إلى ركيزة مركزية في ضمان التوازن الإجرائي.
التسجيل السمعي البصري لتعزيز نزاهة المحاضر
اعتمد القانون التسجيل السمعي البصري لتصريحات المشتبه فيه في قضايا الجنايات والجنح المعاقب عليها بخمس سنوات حبسا أو أكثر، خاصة عند قراءة تصريحاته المضمنة بالمحضر وتوقيعه أو رفضه التوقيع. هذه الآلية تُعدّ ثورة في مجال الإثبات، إذ تحدّ من الانتهاكات المحتملة وتوفر للمحاكم وسيلة موضوعية للتحقق من مصداقية الإجراءات.
ترشيد الاعتقال الاحتياطي والبحث عن البدائل
أكد القانون الجديد أن الاعتقال الاحتياطي تدبير استثنائي، حيث قُلّصت مدد التمديد بشكل ملحوظ، لتصبح في قضايا الجنايات ستة أشهر كحد أقصى، وفي الجنح شهرين فقط. كما أُدرجت بدائل جديدة، مثل الوضع تحت المراقبة القضائية أو الإلكترونية، والإحالة المباشرة على غرفة الجنايات في حالة سراح. هذا التوجه يعكس إرادة واضحة في تقليص الاكتظاظ السجني وصون الحرية الفردية دون الإخلال بمتطلبات الأمن العام.
آليات الوقاية من التعذيب وصون الكرامة الإنسانية
استجابة لالتزامات المغرب الدولية، نص القانون على إلزامية الفحص الطبي لكل مشتبه فيه يطلبه هو أو دفاعه، مع ترتيب بطلان الاعتراف إذا لم يتم الفحص. كما عزز الرقابة على الضابطة القضائية عبر التسجيل السمعي البصري، مما يشكل قفزة نوعية في ضمان الكرامة الإنسانية ومنع التعسف، ويضع المغرب في انسجام مع اتفاقية مناهضة التعذيب.
العدالة التصالحية وتوسيع نطاق الصلح
وسع القانون من دائرة الجرائم القابلة للصلح لتشمل العديد من الجنح ذات الطابع الشخصي أو المالي، مع الاستغناء عن مصادقة القاضي على الصلح. كما أدخل آلية التجنيح القضائي، التي تتيح تكييف بعض الأفعال الجنائية نحو الجنح إذا تبين محدودية الضرر أو بساطة الحق المعتدى عليه. هذه المستجدات تترجم التحول نحو فلسفة العدالة التصالحية، التي تهدف إلى إصلاح العلاقات الاجتماعية وتخفيف العبء عن المحاكم.
تعزيز مركز الضحية كطرف أساسي
لم يعد الضحية مهمشاً في الدعوى العمومية، بل خُوِّل له الحق في التتبع والمواكبة، والحصول على التعويض والدعم، مع توفير حماية خاصة للفئات الهشة كالنساء والأطفال ضحايا العنف. هذا التوجه يُعيد التوازن بين أطراف الخصومة الجنائية ويعطي للعدالة بعداً إنسانياً.
قواعد الإثبات وحماية الحق في الحياة
من أهم المقتضيات الجديدة منع الحكم بالإدانة استناداً فقط إلى تصريحات متهم ضد آخر، إلا إذا كانت مدعومة بقرائن قوية ومنسجمة. كما أصبح الحكم بالإعدام مشروطاً بإجماع أعضاء هيئة الحكم وتوقيعهم جميعاً على محضر خاص. هذا يعكس توجهاً نحو تضييق نطاق العقوبة القصوى، والارتقاء بالمعايير الحمائية للحق في الحياة.
مواجهة الجريمة المنظمة والجرائم العابرة للحدود
عمل المشرع على تعزيز آليات التعاون القضائي الدولي، خاصة في ملاحقة الجرائم المنظمة والإرهاب والاتجار بالبشر وغسل الأموال، مع تقوية دور الخبرة الجنائية والوسائل التقنية الحديثة في الإثبات، بما في ذلك الجرائم السيبرانية. هذه المستجدات تجعل السياسة الجنائية المغربية مندمجة في السياق العالمي، منفتحة على تجارب المقارنة، ومستجيبة لتوصيات الهيئات الأممية.
آليات جديدة في تنفيذ العقوبة
من أبرز المستجدات إدخال التخفيض التلقائي للعقوبة تحت مراقبة قاضي تطبيق العقوبات ووكيل الملك، مع إحداث لجنة قضائية للنظر في التظلمات. كما نص القانون على إمكانية استئناف قرارات الإفراج المؤقت والمراقبة القضائية، وهو ما يعزز الرقابة على تنفيذ العقوبة ويوطد مبدأ المحاكمة العادلة حتى في مرحلة ما بعد الحكم.
خاتمة
إن القانون 03.23 يشكل محطة إصلاحية بارزة في تاريخ العدالة الجنائية المغربية، إذ نجح في تكريس ضمانات جديدة للمحاكمة العادلة، وتوسيع حقوق الدفاع، وترشيد الاعتقال الاحتياطي، وإدماج آليات بديلة مثل المراقبة الإلكترونية والصلح، مع تعزيز مركز الضحية وضمان الحق في الحياة. كما أدخل إصلاحات نوعية في مجال التعاون القضائي الدولي لمواجهة الجرائم العابرة للحدود، مما يجعل السياسة الجنائية المغربية في انسجام مع توجهات المجتمع الدولي، ويمنحها قدرة أكبر على الاستجابة للتحديات الراهنة. غير أن الرهان الحقيقي يظل في التطبيق الفعلي لهذه المقتضيات، من خلال تكوين الفاعلين، وتوفير الوسائل التقنية واللوجيستية، وضمان استقلال القضاء، حتى تتحول النصوص القانونية من وعود إصلاحية إلى واقع ملموس يكرس الثقة في العدالة.
—
قائمة المراجع
الجريدة الرسمية للمملكة المغربية، عدد 7437 بتاريخ 8 شتنبر 2025، متضمنة الظهير الشريف رقم 1.25.55 بتنفيذ القانون رقم 03.23.
وزارة العدل، بلاغ رسمي حول صدور القانون الجديد، شتنبر 2025.
المجلس الوطني لحقوق الإنسان، تقرير حول الاعتقال الاحتياطي وضمانات المحاكمة العادلة، 2024.
الأمم المتحدة، اتفاقية مكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية (اتفاقية باليرمو، 2000) وبروتوكولاتها.
الأمم المتحدة، اتفاقية مناهضة التعذيب (1984).
الأمم المتحدة، العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (1966).
مقالات تحليلية: Le Matin (10 شتنبر 2025)، Médias24 (12 شتنبر 2025).
أدبيات فقهية: التعليقات والشروح على قانون المسطرة الجنائية المغربي (22.01 وما بعده).