حول التحولات العميقة في الحقل الحزبي المغربي على ضوء قراءة محمد الساسي ومقاربات الفكر السياسي المعاصر

يشهد الحقل الحزبي المغربي، كما بدا جلياً في الندوة التي احتضنتها كلية الحقوق السويسي، تحولات عميقة يتجاوز أثرها حدود التنظيم الحزبي إلى طبيعة العملية الديمقراطية برمتها. وقد قدّم الأستاذ محمد الساسي قراءة دقيقة لهذه التحولات، تكشف في جوهرها أننا أمام مرحلة جديدة تتجاوز منطق التعددية التنافسية نحو شكل من التعددية التوافقية التي تُعيد تعريف موقع الأحزاب، ووظائفها، ومصادر قوتها.
وإذا كان الساسي قد أحسن توصيف المظاهر، فإن ما يهمّنا اليوم هو محاولة تفكيك جوهر هذه التحولات، وربطها بأطر نظرية أوسع، كما قدّمها مفكرون من قبيل حنّة آرندت، خوان خوسي لينز، جيوفاني سارتوري، بيير روزنفالون، وبيار بورديو. ذلك أن السياسة ـ في عمقها ـ لا تُقرأ فقط بما يقع، بل بما يكشفه ما يقع عن بنية السلطة، وعن اتجاهات الدولة والمجتمع.
1. من السياسة كمشروع مجتمعي إلى السياسة كإدارة للتدبير
أبرز الساسي أن الأحزاب المغربية انتقلت من طموح الحكم وصياغة السياسات العمومية إلى مجرد التدبير التقني داخل الحكومات. وهذا التحول يحيل إلى ما سماه المفكر الإيطالي جيوفاني سارتوري “انكماش الوظيفة التمثيلية للأحزاب”، حيث تتحول الأحزاب من صانعة للتوجهات الكبرى إلى منفذة لسياسات مُعدّة سلفاً داخل جهاز الدولة.
إن ما نعيشه اليوم يقارب ما وصفته حنّة آرندت بـ تفريغ السياسة من معناها حين يصبح الفعل السياسي منفصلاً عن الفضاء العمومي، ومرتبطاً فقط بآليات الإدارة والتسيير. وبهذا المعنى، يصبح الحزب جزءاً من الدولة وليس وسيطاً بينها وبين المجتمع.
2. سقوط “جدار برلين المغربي”: من الانقسام الإيديولوجي إلى التماهي البنيوي
يؤكد الساسي أن الفارق التاريخي بين “الأحزاب التدبيرية” و”الأحزاب الوطنية” قد انهار، وأن الجميع اليوم يتقاسم المرجعية نفسها تجاه الملكية والدستور وحدود الإصلاح السياسي. هذا التحول يحيل مباشرة إلى أطروحة عالم الاجتماع السياسي بيار بورديو حول هيمنة الحقل السياسي، حيث تفرض السلطة المركزية حدود اللعبة، وتجعل كل الفاعلين يتحركون داخل المجال نفسه، مهما بدت شعاراتهم مختلفة.
لقد تحولت التعددية المغربية، تبعاً لذلك، إلى ما يشبه “التعدد داخل الوحدة”، أو ما يسميه لينز في تحليله للأنظمة المختلطة بــ pluralism without pluralism — تعددية بلا اختلاف فعلي.
3. من خطاب الوطني إلى خطاب “البلازمة”: الأزمة الفكرية للأحزاب
يشير الساسي إلى تحول الخطاب الحزبي من الإيديولوجيا والمشاريع المجتمعية إلى خطاب ضبابي مُفرَغ من المضمون. وهنا يمكن استحضار بيير روزنفالون في كتابه La Légitimité démocratique، حيث يعتبر أن ضعف الخطاب السياسي يؤدي إلى فقدان الشرعية التمثيلية، لأن المواطن لم يعد يجد “المعنى” الذي يربطه بالحزب.
خطاب “البلازمة”، بتعبير الساسي، ليس مجرد ضعف لغوي، بل هو علامة على انهيار الوظيفة الفكرية للأحزاب.
4. مصادر القوة الجديدة: نهاية الشرعية الشعبية وبداية شرعية القرب
تحليل الساسي لتحول مصادر القوة من الشرعية الانتخابية إلى شرعية القرب من الدولة يتقاطع مع أطروحة برتراند بادي حول “تدويل السلطة” و”شخصنة النفوذ”، حيث تصبح القوة السياسية غير مرتبطة بالصندوق أو بالتنظيم، بل بـ الموقع داخل الحقل السلطوي.
هنا يتراجع الدور الوسيط للأحزاب، ويتقدم دور الفاعل المركزي (الدولة)، الذي يعيد هيكلة الحقل كما يشاء.
5. أفول الفاعلين الاجتماعيين وصعود منافسين جدد
يقرأ الساسي تراجع النقابات والجمعيات وصعود الزوايا والتنسيقيات والحركات الرقمية. وهذا يتوافق مع تحليلات عالم الاجتماع الفرنسي ألان توران حول “مجتمع ما بعد السياسة”، حيث تصبح التعبئة الاجتماعية خارج الأحزاب أكثر فاعلية من داخلها.
إن الزوايا، والفضاء الأزرق، والحملات الرقمية ليست مجرد منافسين؛ إنها علامات على تحول عميق في تمثلات السلطة والشرعية.
6. مركزية الانتخابات وتقلص الفوارق: أزمة العرض السياسي
يتحدث الساسي عن تقلص الفوارق بين المرشحين، وعن مركزية الحقل الانتخابي. وهذه إحدى علامات ما يسميه سارتوري cartel party أو “حزب الكارتيل”، حيث تصبح الأحزاب شبيهة بشركات سياسية تتنافس بوسائل متشابهة على سوق انتخابية واحدة.
وفي هذا السياق، يصبح المواطن متفرجاً لا شريكاً، والعزوف نتيجة طبيعية لا طارئة.
7. من القائد الوطني إلى القائد الشعبوي: أزمة القيادة
تحليل الساسي لمسار تطور القيادة الحزبية يتقاطع مع ما كتبه يان فيرنر مولر في كتابه Qu’est-ce que le populisme ?، حيث تصبح الشعبوية مرحلة تعويضية في سياق ضعف المؤسسات الوسيطة.
القائد الشعبوي هو ابن الفراغ المؤسساتي، لا ابن القوة التنظيمية.
8. الدولة تستكمل ما لم تستطع الأحزاب استكماله
أخطر ما كشفه الساسي هو أن الدولة أصبحت مصلحة البنية الداخلية للأحزاب، وهو ما يشكل انقلاباً في منطق الديمقراطية التمثيلية حيث يفترض أن الأحزاب هي التي تُصلح الدولة عبر برامجها.
هذا يشبه ما يسميه رولان بارت بـ المؤسسات التي تبتلع خطاباتها، فيصبح الحزب انعكاساً لسلطة الدولة لا سلطة المجتمع.
خلاصة: نحو إعادة تعريف السياسة في المغرب
إن التحولات التي أشار إليها الساسي، وتعززها القراءات النظرية السابقة، تؤكد أننا أمام مرحلة انتقالية في تاريخ السياسة المغربية، حيث:
لم تعد السياسة مشروعاً تنافسياً بين رؤى مختلفة
ولم تعد الأحزاب وسيطاً أصيلاً بين المواطن والدولة
ولم تعد الشرعية مرتبطة بالاقتراع وحده
ولم تعد القيادة نتاجاً لمسار نضالي، بل نتاجاً لفراغ جماعي
وبدل ذلك، أصبحت السياسة أقرب إلى هندسة توافقية تؤطرها الدولة، وتشارك فيها الأحزاب بوصفها فاعلاً إدارياً، أكثر من كونها فاعلاً مجتمعياً.
لكن هذا الواقع ليس قدراً محتوماً. فالتاريخ يعلمنا، كما شددت حنّة آرندت، أن السياسة تستعيد معناها عندما يستعيد المواطن القدرة على الفعل، ويستعيد الحزب القدرة على التفكير، وتستعيد الدولة الثقة في التنوع.
إن السؤال المركزي اليوم ليس:
هل انتهت السياسة؟
بل: من سيعيد بناء معناها، وكيف؟
وهذه المهمة، في كل التجارب المقارنة، تبدأ دائماً بفاعلين يمتلكون الجرأة على التشخيص، والشجاعة على اقتراح البدائل، والقدرة على ممارسة السياسة بما هي التزام أخلاقي قبل أن تكون موقعاً وظيفياً.


