الانبعاث الطريق إلى المؤتمر الوطني الرابع لحزب الأصالة والمعاصرة
واجه المؤتمر التأسيسي للحزب تحدي الوجود في بيئة حزبية متوجسة، لم تتقبل، في مجملها آنذاك، عرضا سياسيا وليد السياقات الواعدة للعدالة الانتقالية، وتفاعلا واعيا وإراديا مع آمال المصالحات الثقافية والمجالية ومع آمال التحديث التي حملها، ولازال، العهد الجديد منذ 1999.
وواجه المؤتمر الثاني تحدي الاستمرار في محيط سياسي، حاول أن يجعل من حزبنا، الذي لم يمض بعد على تأسيسه ثلاث سنوات، “كبش فداء” لخطايا الحقل الحزبي المغربي، منذ الاستقلال إلى اليوم، وواجه المؤتمر الثالث تحدي الوقوف ،انتخابيا وبرنامجيا، سدا منيعا في وجه المخاطر الزاحفة التي هددت ولا زالت قيم المجتمع الديمقراطي، وعلى رأسها مخاطر الاستثمار الحزبي في الرأسمال الرمزي المشترك الذي يجسده الدين الإسلامي، وما يمثله ذلك من مخاطر، طويلة الأمد، لا يمكن تجاهلها تحت تطبيع خادع، على الديمقراطية المغربية، وعلى تماسكنا الاجتماعي، وعلى تنوعنا الثقافي وعلى نموذج الإسلام المغربي، وفي الأخير، لا قدر الله، على أسس شرعية النظام الدستوري الذي ارتضاه المغاربة، والذي يتأسس، من ضمن مرتكزات أخرى، على الاختصاص الحصري لإمارة المؤمنين في المجال الديني.
لقد ولد حزب الأصالة والمعاصرة في بيئة حزبية لا ترى جدوى في أي عروض سياسية جديدة، ونما في بيئة فكرية، يراه فيها المحافظون، من مختلف المستويات والألوان والمواقع، خطرا داهما، ويعتبره فيها الليبراليون والمركب الاقتصادي المصالحي- الريعي المرتبط بهم مجرد “حزب إضافي”، بل ومهدد لنهجهم غير القائم على فضائل اقتصاد السوق الاجتماعي وقيم العدالة الاجتماعية، في الوقت الذي تنأى فيه أغلب قوى الحداثة واليسار عن العمل المشترك مع الحزب ولو في نطاق القضايا والقيم التي تجمعنا بصددها رؤى مشتركة.
وهكذا، ساهم السياق الصعب الذي ولد الحزب ونما فيه، بأشكال مختلفة، في تأخر مسار عدد من الاستحقاقات التنظيمية والبرنامجية التي من شأنها توطيد ما حققه الحزب من مكتسبات.
وعلى الرغم من كل الصعوبات المشار إليها، فلقد أصبح وجود الحزب وموقعه الوازن في المشهد السياسي أمران مسلمان بهما، ولقد تمكن الحزب من البقاء بعدما تمنى البعض زواله، وتمكن، بالتالي، من الوقوف، انتخابيا، في وجه مد زاحف كان يهدد في سنتي 2015 و2016 بالتحول إلى نمط من أردوغانية Erdoganisme مغربية لا فكاك منها إلا على المدى المتوسط على الأقل.
غير أن عددا من التحديات الأخرى، من غير تلك التي رصدتها وثيقة ” خارطة الطريق” التي تقدم بها الأمين العام غداة انتخابه، لا زالت تستلزم منا مجهودا جماعيا مضنيا لرفعها، مثلما تتطلب نفسا طويلا من المناضلات والمناضلين الأوفياء لمنطلقات وقيم التأسيس، لذا سيكون المؤتمر الرابع للحزب، مؤتمرا للانبعاث، انبعاث عرض سياسي يساهم، إلى جانب العروض السياسية الحزبية الديمقراطية-الدنيوية الأخرى، في تقديم عناصر إجابة وحلول عملية لممارسة الأحزاب السياسية لأدوارها الدستورية.
قدرنا أن نبني الحزب، تحت نيران سياق صعب وغير موات. قدرنا أننا واجهنا على مدى عشر سنوات خصوما بألوان مختلفة. وقدرنا اليوم أننا نمضي ونستمر في مواجهتهم ومواجهة من اصطف- موضوعيا- الى جانبهم من معاول الهدم الداخلية. ولذا سنسلك جميعا طريق الانبعاث، الطريق إلى المؤتمر الوطني الرابع.
II : الأمراض الخمسة لجسمنا الحزبي
ترسيخا لفضيلة النقد الذاتي، نؤكد أن حزبنا يعاني، من بين ما يعانيه، من خمسة أمراض، وهي أمراض يتقاسمها المشهد الحزبي الوطني بأشكال ودرجات متفاوتة، غير أننا لن نشير، في تشخيصنا إلا إلى تلك المتعلقة بجسمنا الحزبي، والتي تحول دون أداء الحزب لأدواره الدستورية على نحو سليم وناجع.
• الانتظارية
سجل منذ السنتين الأخيرتين تراجع في إيقاع مبادرات الحزب السياسية والبرلمانية، بعدما كان في طليعة المبادرين في ملفات وقضايا تتطلب قدرا كبيرا من الشجاعة الأدبية لإبداء مواقف واضحة فيها بغض النظر عن درجة قبولها الاجتماعي والثقافي من عدمه، ككونية حقوق الإنسان، والمساواة بين الجنسين، والحكامة الترابية، والحقوق اللغوية والثقافية، ومكافحة مختلف أشكال التمييز ضد الفئات الهشة، ومواجهة الاستثمار في الرأسمال الرمزي المشترك للدين الإسلامي، والترافع من أجل منظومة جديدة للعدالة الاجتماعية والمجالية، وتحقيق الطابع الفعلي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، والإصلاحات الدستورية والمؤسساتية.
ولقد اندرجت مواقف الحزب وتقديراته دوما، وستظل كذلك، في سياق المساهمة في دعم قيم وتوجهات وخيارات المشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي، والبحث عن التوسيع المستمر لقاعدة الفئات الاجتماعية الداعمة لهذا الخيار، الذي هو خيار العهد الجديد، وتقوية جبهة الحلفاء السياسيين والمدنيين الداعمين له.
غير أن صعوبات داخلية (ذات طبيعة تنظيمية)، وخارجية (بيئة حزبية غير متعودة، لأسباب تاريخية وثقافية، على شروط التنافس السياسي العادي) حالت دون الحفاظ على إيقاع هذه المبادرات، من موقعنا في المعارضة. ولا يمكن إنكار الدور السلبي، الذي تمثله، لدى البعض منا، سيادة بقايا ثقافة سياسية تنتمي إلى ما قبل العهد الجديد، ثقافة “انتظار الإشارات” عوض ثقافة الاستباق والمبادرة والتفاعل البناء، خدمة لوطننا.
لقد كانت لثقافة الانتظارية كلفة باهظة على الحزب، أدت وتؤدي الى كبح إمكانات حقيقية لسيرورة الحزب قوة سياسية وتنظيمية رائدة في المشهد السياسي الوطني، فضلا عن كونها احدى الأسباب الجوهرية المسؤولة عن تغذية السلوك الانتهازي الملاحظ عند بعض من أعضاء حزبنا. ولذا فإن الانتقال الحاسم والواعي إلى ثقافة المبادرة والجرأة والمسؤولية وبذل الجهد لخدمة المشروع الحزبي، سيؤدي إلى تجاوز مبرر وجود السلوكات الانتهازية ذاتها.
• العجز عن تنخيب الشباب والنساء، وبناء زعامات حزبية جديدة
لقد كان حزبنا ولازال، وهو أمر مؤكد إحصائيا، في طليعة الأحزاب التي اتخذت تدابير إرادية، إضافية إلى ما ألزمته بها القوانين المنظمة للأحزاب والعمليات الانتخابية، لضمان تمثيلية وازنة للنساء والشباب في الانتدابات الانتخابية المختلفة والمسؤوليات الحزبية.
وقبل ذلك، ابتكر حزبنا، فكرة “الجيل الجديد من الأمناء الجهويين” التي توخت الاستجابة للتحديات المختلفة المتعلقة بالتشبيب والتأنيث، وتوسيع مشاركة الطاقات السياسية والمدنية المنتمية إلى “المغرب العميق”، وتكوين قيادات حزبية تساهم في إرساء تموقع الحزب على المستوى الترابي.
غير أن كل ذلك، لا يعني بالضرورة تحقيق تقدم لافت على درب انبثاق كتلة ضرورية من القيادات الحزبية الشابة الجديدة، جيل جديد من القائدات والقادة، قيادات تعكس تنوع المغرب جيليا، وثقافيا، ومجاليا، واجتماعيا، قيادات تعكس غاية المناصفة بين الرجال والنساء، قادرة على التفاعل الناجع على ضوء التوسع الكبير للمجال العمومي الافتراضي الذي يسائل اليوم منظوراتنا الكلاسيكية بشأن التمثيلية، وبناء الشرعيات، والوساطة والتواصل السياسي. قيادات قادرة على التجاوب الفعال مع تحولات وتحديات القرن الواحد والعشرين (الانتقال الديمغرافي، ظهور المجال العمومي الافتراضي، الأهمية الكبرى للرهانات العبر وطنية كحركة الرساميل، العدالة المناخية، الهجرة، عودة التعبيرات الهوياتية ما قبل الحديثة…) والإسهام في بناء حلول واقعية لقضايانا الملحة، تلك القضايا عينها التي ما فتئ جلالة الملك يشير إلى أهميتها الفائقة في خطبه و رسائله المتوالية: قضايا العدالة الاجتماعية، وتمكين الشباب من الولوج إلى حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية، ومراجعة النموذج التنموي، وتسريع مسار الجهوية المتقدمة، وقضايا التعليم والصحة والتشغيل والإصلاح الشامل والعميق لمنظومة التدبير العمومي، واستكمال ورش إعمال الدستور، وحماية الحريات والحقوق الأساسية والنهوض بها.
إن عملا جبارا لا زال ينتظرنا على درب تحقيق هذه الغايات، وسوف يكون المؤتمر الرابع لحزبنا محطة أساسية على هذا الدرب.
• النزوع إلى تحريف مرجعية الحزب
يعتبر حزبنا وليد سياقات العدالة الانتقالية، وقد اجتهد في بلورة وثيقة مرجعية حدد فيها توجهاته الايديولوجية والسياسية في الديمقراطية الاجتماعية، وهي رؤية تقوم على تبني اقتصاد السوق الاجتماعي، وإعادة التوزيع الفعال للثروة، وتحقيق العدالة الاجتماعية والمجالية وبين الأجيال، والتضامن والعمل على تحفيز النسيج الاقتصادي الوطني بآليات غير ريعية.
ومن ثم يتوفر حزبنا على رؤية خاصة بالنظر لتوجهه السوسيو-ديمقراطي تخص على سبيل المثال لا الحصر آليات إعادة توزيع الثروة، الإطار الوطني للأعمال التجارية وحقوق الإنسان، التنمية المستدامة، التأهيل الاقتصادي والاجتماعي للفئات الهشة، دعم الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، ومنظومة الحماية الاجتماعية، والمقاولة الصغرى والمتوسطة، ضمانات العمل اللائق، تأهيل الاقتصاد غير المهيكل، الاقتصاد الأخضر، السياسات المندمجة للشباب، اعتبار بعد النوع في السياسات العمومية.
ولئن شهدت هذه الأطروحة نقاشا حادا في المؤتمر الاستثنائي بسبب اللبس الذي تولد عند البعض بشأن حقيقة تموقعنا الإيديولوجي: ,?Démocratie Sociale Ou Sociale-Démocrate? فإن المؤتمر انتهى إلى تبنيها بالأغلبية المطلقة وبتوافق تام. ولقد اعتبرنا هذه الوثيقة ميلادا ثانيا للحزب الذي أصبح يحمل رؤية سياسية وإيديولوجية واضحة، تنتمي إلى وسط اليسار.
غير أنه قد برز نزوع إلى تحريف هذا الاختيار، وهو تحريف يتخذ، على الأقل، شكلين بالغي الخطورة على استدامة مشروع حزبنا:
• إهمال تعميق التداول بشأن مرجعية الحزب لدى أوسع فئات مناضلاتنا ومناضلينا بمختلف ربوع الوطن، وهو تحريف يتخذ شكل تبخيس وتهميش هذه المرجعية، مما تولد عنه تمثل خاطئ، يتقاسمه جزء من الرأي العام الوطني بكل أسف مع جزء من مناضلات ومناضلي حزبنا الذين أصبحوا يعتقدون أن لا مرجعية لحزبنا على الإطلاق.
• محاولة تحريف مرجعيتنا بتهجينها، رمزيا، عبر استيراد الجهاز المفاهيمي والمصطلحي للإسلام السياسي كاستعمال مصطلح التدافع عوض الصراع والتنافس، والتنزيل عوض الأجرأة والتطبيق والإعمال، والتجويد عوض التحسين والتطوير، وتنظيميا عبر افتعال البعض منا لصراعات ذات طابع شخصي مرتكزة على أنانية متضخمة ورغبة ذاتية في التموقع وإعلان الجاهزية لتقديم خدمة “التحالف” مع قوى الإسلام السياسي، أو مع المركب الاقتصادي-الريعي-المصالحي المرتبط به موضوعيا، “وتسخين أكتافهما” لتحقيق رغبات أنانية ضيقة تتمثل في الولوج إلى انتدابات السلطة التنفيذية بأي ثمن، وبأي شكل، وتحت أي ظرف، وخارج منطق التمثيل الديمقراطي، ولو على حساب مرجعية الحزب وهويته، وأدواره السياسية والمجتمعية. كما يتخذ هذا التحريف، أشكالا تواصلية، تقدم خدمة جلية لخصومنا السياسيين، وبشكل خاص لقوى الإسلام السياسي والمركب الاقتصادي-الريعي-المصالحي المرتبط به موضوعيا، ومن تلك الأشكال استيراد نماذج الخطاب الشعبوي وممارسته للتغطية على ممارسات مخالفة للشرعية ولقوانين الحزب ومؤسساته، والتطبيع مع التبخيس العلني المتعمد لعمل مؤسسي الحزب وكل أمنائه العامين السابقين، والادعاء الزائف “القرب من جهات عليا”، في مسعى يمنح على طبق من ذهب “مبررات خطابية” من “أهلنا” لمن يروج من خصومنا لأسطورة “التحكم”.
وإذن تتخذ نزوعات تحريف مرجعيتنا صورة تهميش تلك المرجعية وتبخيسها، ومحاولة المتاجرة بها بثمن بخس في سوق المزاد الرمزي خدمة لأطماع ذاتية غارقة في الانتهازية، وتهجينها خدمة لقوى الإسلام السياسي، أو المركب الاقتصادي-الريعي-المصالحي المرتبط به موضوعيا، وفي حالات قصوى يتخذ هذا التحريف شكل إنكار وجود هذه المرجعية ذاتها، وإلا فما معنى افتعال صراعات لا سند لها من مرجعية الحزب أو من أدبياته وأهدافه؟ وما معنى هذا الإجهاض الممنهج والمستميت، من قبل معاول الهدم الداخلية، وعلى مدى سنة كاملة، للمبادرات التي تغيّت إنضاج شروط استعادة الحزب للمبادرة؟
إن عملا كبيرا ينتظرنا جميعا للقطع النهائي مع النزوعات التحريفية، والنزعات الانتهازية والتقدم على درب الإغناء والتطوير المستمر لمرجعية حزبنا بالاستناد على قيمه الثابتة، قيم المشروع المجتمعي الديمقراطي المشدود الى أفق الحداثة الواسع، قيم التضامن والعدالة الاجتماعية، قيم المواطنة، وتامغربيت، قيم التنوع وقيم الوطنية الثانية. وإن المؤتمر الرابع سيكون محطة أساسية على طريق هذه الأهداف.
• العجز عن الوساطة الفعالة
لا تحتاج هذه العلة، التي تعتري النسيج الحزبي الوطني، والتي أشارت إليها الخطب والرسائل الملكية السامية بشكل متواتر، إلى مزيد من التشخيص. ولذا يمكن، عوض التمرين التشخيصي المتكرر، طرح أسئلة ذات طابع عملي.
توضح أزمة الوساطة الحالية، أن مؤسساتنا التمثيلية محاصرة بين السندان والمطرقة: بين سندان نمط من التمثيل الأعياني يفقد بشكل تدريجي ولكن بوتيرة سريعة دوره التأطيري (بما في ذلك في العالم القروي)، ودوره في الوساطة، وبين مطرقة خطيرة للتمثيل الشعبوي الذي يستثمر في الرأسمال الرمزي للدين الإسلامي والذي يستمد مقومات استدامته من خارج النسق الانتخابي (الأذرع الدعوية، الأذرع الجمعوية، العمل الخيري، مصادر رمادية للتمويل…).
كيف يمكن إذن لحزبنا ابتكار إجابات تنظيمية ملائمة له من جهة، والتفكير، بمعية جميع الشركاء السياسيين المعنيين، في نمط اقتراع يخرج مؤسساتنا التمثيلية، ولو بشكل تدريجي، من المطرقة والسندان، وباحترام مبادئ القانون الدستوري للانتخابات.؟
إن جزءا من أزمة الوساطة، هي أزمة تواصلية في المقام الأول، خاصة بالنسبة لحزب يحتل المرتبة الثانية في المشهد السياسي الوطني، وهي مرتبة تبوأها حزبنا عن استحقاق بفضل جهد مناضلاته ومناضليه وتضحيات قادته السابقين، و يكفي في هذا الصدد التذكير ببعض المعطيات الإحصائية، فحسب مؤسسة Hootsuite We are social، التي تصدر التقرير السنوي لاستعمال وسائط التواصل الاجتماعي على المستويات العالمية والوطنية بما فيها المغرب، فإن عدد الهواتف النقالة المستعملة بالمغرب سنة 2019 هو 43 مليون و760000، وعدد مستعملي الإنترنيت هو 22 مليون و570000 أي بنسبة اختراق تمثل 62 بالمائة، وعدد مستعملي وسائط التواصل الاجتماعي هو 17 مليون، بمعدل يومي يتمثل في ساعتين ونصف لكل مستعمل، و من ثم يطرح التساؤل، كيف يمكن تقوية الأدوار التواصلية لحزبنا، وأدواره في مجال بناء عروض برنامجية متجددة.
إن علة العجز عن الوساطة الفعالة، لا تنحصر فقط في عدم القدرة على لعب دور الوسيط الضروري و الفعال في تجميع و تركيب ونقل والترافع والاستجابة للمطالب المشروعة الصادرة عن مختلف قوى شعبنا الحية، في مختلف مجالاته الترابية، أو التفاعل البناء مع الديناميات الاحتجاجية وتحويلها إلى مطالب وأصوات مؤسساتية، وإنما لهذه العلة بعد أعمق يمكن التعبير عنه في السؤال العملي التالي : كيف يمكن للقوى الحاملة للمشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي، بما فيها مختلف النخب، أن تقدم الدعم اللازم والمستمر للخيارات التحديثية للعهد الجديد، والتي استبقت، ضمن منطق تحويلي وتغييري وتحديثي، دينامية المجتمع خلال العقدين الأخيرين، فيما يمكن اعتباره عهد ميجيMeiji مغربيا، لا زال واعدا بالكثير من الإصلاحات التحديثية؟
إن عملا طويلا لازال ينتظرنا جميعا، على المستويات التنظيمية والإجرائية، وكذا على مستوى التفكير الجماعي بمعية شركائنا السياسيين والمدنيين والاجتماعيين، في كيفية إعادة بناء النسيج الوطني للوساطة السياسية والاجتماعية، وإن المؤتمر الرابع سيكون محطة أساسية في هذا الورش الصعب والضروري لتحويل ما نعيشه اليوم كأزمة إلى فرصة نمو وتطور.
• العجز عن تعبئة وإنتاج الخبرة الحزبية
لقد كان حزبنا دوما على وعي تام بالدور المحوري الذي يتعين أن تلعبه الأحزاب السياسية كقوة اقتراحية، ليس فقط في مجالات التدبير العمومي، وليس فقط ضمن الأطر المؤسساتية العادية (العمل البرلماني مثلا)، وإنما أيضا بمناسبة الاستحقاقات الاستشارية الكبرى (مراجعة الدستور، الجهوية المتقدمة، البناء التشاركي للنموذج التنموي…) والحوارات العمومية (منظومة العدالة، مراجعة منظومة الحماية الاجتماعية، مراجعة المنظومة الجبائية مثلا). كما أنها تهم أيضا المساهمة في التفكير في المجالات التي تعتبر ذات طابع استراتيجي، وتتجاوز زمن الانتدابات الانتخابية والحكومية، بل ويتوقف عليها صمود la résilience المغرب كدولة-أمة في القرن الواحد والعشرين (الجهوية، التدبير المستدام للموارد الطبيعية، مواجهة آثار التغيرات المناخية، إعادة بناء منظومة الحماية الاجتماعية، التعليم، تدبير التنوع الثقافي، إدماج الشباب).
ولهذا الغرض اختار الحزب التنصيص على تأسيس أكاديمية تعنى بالتكوين وبناء القدرات وتقديم الخبرة، وأحدث عددا من المنتديات السوسيو-مهنية، وهيكل لجان المجلس الوطني لجعلها مختبرات منتجة للخبرة الحزبية.
غير أن واقع الحال يغني عن أي تشخيص، فأغلب آليات إنتاج الخبرة في حزبنا متوقفة، أو مرتهنة بصراعات ذاتية، مما أشير إلى بعض منه في تشخيص مرض النزوع إلى التحريفية، كما تحول عدد من المنتديات إلى مجرد تجمعات فئوية، لدرجة أننا نوجد اليوم في حالة متقدمة من “العجز التقني” عن تقديم المساهمات والإجابات والمقترحات الواقعية والنوعية إزاء الأسئلة والقضايا والأوراش التي فتحها جلالة الملك للتفكير أمام جميع الفاعلين السياسيين والمجتمعيين.
وإذن كيف يمكن لنا إعادة بناء وضمان استدامة بنيات حزبية للخبرة والاستشارة ودعم القدرات وأعمال البحث التطبيقي وإعداد العروض البرنامجية المتعلقة بالسياسات العمومية، وأن تقوم هذه البنيات بتعبئة الخبرات الحزبية الداخلية، واستثمار الخبرات الوطنية غير الحزبية؟
III : علاجات أولوية للأمراض الخمس
يتطلب علاج الأمراض الخمسة، إرادة جماعية وزمنا مقدرا، وفي الطريق إلى المؤتمر الوطني الرابع، يمكن، من وجهة نظر براغماتية واقعية، البدء ببعض العلاجات لجسمنا الجماعي، خلال الشهور التي تفصلنا عن عقد المؤتمر، ومن الممكن أن تكون هذه العلاجات، تدابير ذات طبيعة تحضيرية، لتسهيل مهمة القيادة الجديدة التي ستنبثق عن المؤتمر وستكون بلا شك أهلا لتحمل المسؤولية.
• لنعمل جميعا على هزم الانتظارية، واستعادة زمام المبادرة
في سياق تتسارع فيه الأحداث السياسية، وتقترب فيه استحقاقات حاسمة، ينبغي على وجه الاستعجال، وخلال الفترة السابقة على عقد المؤتمر الرابع العادي، استكمال التفكير في ثلاثة أوراش:
• إستكمال صياغة وبلورة مساهمة الحزب بشأن النموذج التنموي الجديد؛
• إعداد التعديلات المؤسساتية والدستورية التي تمكن من دعم آليات القيادة الاستراتيجية للمؤسسة الملكية للأوراش المهيكلة، وضمان الترابط المنطقي بين النموذج التنموي والسياسات العمومية المتخذة أجرأة له، وبناء توافقات وطنية، بشأن الاختيارات الأساسية، وفق منطق عابر للاصطفافات السياسية الظرفية في المجالات التي تعتبر ذات طابع استراتيجي، وتتجاوز زمن الانتدابات الانتخابية والحكومية والكوابح المرتبطة بها والتي أبرزتها الممارسة؛
• إعداد مقترحات الحزب بشأن المنظومة القانونية للعمليات الانتخابية بما في ذلك التفكير في نمط اقتراع يخرج مؤسساتنا التمثيلية، ولو بشكل تدريجي من مطرقة ” الأردوغانية ” المغربية وسندان تراجع أدوار التمثيل الأعياني الكلاسيكي، ويضمن تنوعا في التمثيلية، وحضورا تمثيليا وازنا للنساء والشباب والأطر، و”جودة الديمقراطية المغربية”، وحماية المؤسسات التمثيلية لبلادنا من المد الشعبوي.
• إعداد تصور الحزب بشأن السياسة الوطنية المندمجة للشباب
• لنسرع من استكمال بناء حزب التعاقد والقانون والمؤسسات والأفكار
إن أصوب طريق لتجاوز فخاخ التحريفية، والصراعات الشخصية ذات المنطلق الانتهازي هو تسريع مسار استكمال بناء حزب التعاقد القائم على المسؤولية، وبشكل أدق، على إعادة تعريف معنى المسؤولية الحزبية، وعلى منطق الحقوق والواجبات وعلى الاحتكام إلى القانون والمؤسسات الحزبية. واستعادة النقاش الفكري بشأن مرجعية الحزب.
كما أن أفضل جواب على من يبخس عمل المناضلات والمناضلين ومجهودات الأمناء العامين السابقين للحزب، يتمثل في تعميق النقاش حول مرجعية الحزب. لا سيما عبر فتح نقاش حزبي حول إغناء مرجعية الحزب بتطوير فكرة الوطنية الثانية، القائمة على «تامغربيت” والمواطنة الدستورية ذات البعد الدامج، الدمج بكل أبعاده السياسية والثقافية والاجتماعية والمجالية وبمعناه القائم على التضامن بين الأجيال، والتي تحمل ضمنيا تجاوزا (ليس بمعنى القطيعة وإنما بمعنى الانتقال إلى وضع أكثر تطورا) لإرث “الوطنية الأولى”، ارث الحركة الوطنية الذي لم يكن حاملا (أو لم يكن حاملا بشكل كاف) لفكرة التنوع الثقافي واللغوي والمجالي والديني للمغاربة. الوطنية الثانية بما هي فكرة قائمة على الاعتراف reconnaissance بالمغاربة كمواطنات ومواطنين متساوين دون تمييز فيما ينهم، وبالاعتراف بهم في تنوعهم وتعددهم.
• لنعمل على توفير جميع شروط انبثاق جيل جديد من القادة الحزبيين
علينا أن نجعل من الحزب مدرسة للمستقبل تؤطّْر وتكوِّن وتُعلي من الكفاءات التنظيمية والسياسية والفكرية لمنخرطيها من أجل تجديد النخبة الحزبية والمساهمة في إغناء المؤسسات الوطنية في كل المستويات بالأطر والكفاءات التي يحتمها الانتقال الديمقراطي، والتي من المفروض أن تجدد النخبة السياسية المغربية التي ينتمي جزء كبير منها لنسق سياسي وحزبي عتيق.
إن التقاعس عن ذلك سوف لن يكون من شأنه إلا تسطيح الوعي السياسي بيننا، مع ما في ذلك من إضعاف للوعي السياسي بيننا وإشاعة للتلفيق عوض الاجتهاد والتسلق عوض الاستحقاق.
لذلك فإنه من العاجل القيام بمبادرتين أوليتين بهذا الخصوص:
• البدء في استقطاب نخب جديدة من خلال تنظيم النسخة الأولى من المتلقيات السنوية الجهوية المنصوص عليها في المادة 18 من النظام الأساسي، و تتضمن حملة جهوية لتنمية العضوية على النحو المنصوص عليه في المادة 8 من النظام الداخلي، مع تدقيق استهداف عرض العضوية والعرض المتعلق بالمناصرين لفئات محددة : الشباب، المؤثرون على وسائل التواصل الاجتماعي، المهنيون، الفاعلون المدنيون في الديناميات الاجتماعية الترابية، الفاعلون في الاقتصاد الاجتماعي والتضامني ، جزء من الفئات الوسطى الحضرية، مغاربة العالم، العاملين في مجال الاقتصاد غير المهيكل.
• إحداث منظومة عملياتية، لرعاية parrainage مجموعة من القادة الشباب من الجنسين، ومن مختلف الخلفيات الاجتماعية والمهنية والتعليمية والمجالية، في أفق تمكينهم، عبر تدابير إرادية وإيجابية، من الولوج النوعي والوازن إلى مختلف الأجهزة القيادية للحزب بمناسبة المؤتمر العادي الرابع، وإلى عروض الترشيحات للانتدابات الانتخابية والتمثيلية الأخرى باسم الحزب، وضمان عيانيتهم visibilité ومساهمتهم الفعلية في مجال صنع القرار الحزبي، والتواصل الحزبي.
4) لنساهم على وجه الاستعجال في ترميم النسيج الوطني للوساطة السياسية والمدنية والاجتماعية في أفق إعادة بنائه
من العاجل خلال الفترة السابقة على عقد المؤتمر الرابع العادي القيام بالمبادرات الأولوية التالية:
• تنظيم لقاءات موضوعاتية، استكشافية لتبادل الآراء مع الفاعلين الشباب في الحركات الاجتماعية والديناميات الاحتجاجية والشباب المؤثر في وسائط الاتصال الاجتماعي، وكذا الشباب العاملين في الجمعيات المختصة في مجال المشاركة المواطنة للشباب، واندماجهم في الحياة النشيطة، وفي مجالات تيسير ولوج الشباب للثقافة والعلم والتكنولوجيا، والفن والرياضة والأنشطة الترفيهية، وكذا في مجالات مساعدة الشباب الذين تعترضهم صعوبة في التكيف المدرسي أو الاجتماعي أو المهني. وتقاسم هذه الخلاصات في أفق وضع أرضيات مشتركة لبناء ائتلافات موضوعاتية حول قضايا مشتركة تتعلق بالسياسات العمومية.
• التزام رئيسات ورؤساء جميع الجماعات الترابية التي يسيرها الحزب (جهات، عمالات أقاليم، جماعات) في أجل لا يتجاوز ثلاثة أشهر المقبلة، بتجديد تأليف الهيئات الاستشارية التشاركية المنصوص عليها في القوانين التنظيمية للجماعات الترابية وتطعيمها بفاعلين وهيئات وأنسجة مدنية ذات مصداقية، ووضع اتفاقات موضوعاتية مع الأنسجة المدنية العاملة في مجال التنمية الديمقراطية والمواطنة من أجل إنجاز مبادرات وساطة في بعض القضايا المتعلقة بالولوج إلى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والبيئية؛
• لنعمل على وجه السرعة على تعبئة رصيدنا من الخبرة الحزبية
بالنظر للطلب القوي على الخبرة الحزبية في علاقة بالانتقال من وضع الانتظارية إلى وضع المبادرة، يبدو أن من الأولوي القيام بالمبادرات التالية وذلك قبل تنظيم المؤتمر الوطني الرابع:
• تكليف إدارة الحزب، في أجل لا يتعدى شهرا بوضع قاعدة معطيات مندمجة لخبراء الحزب في مختلف التخصصات وفي مختلف الروافد (المنتديات، اللجان الوظيفية للمجلس الوطني، خبراء فريقي الحزب بالغرفتين، الخبراء المتعاقدون مع الجماعات الترابية التي يسيرها الحزب، خبراء المجتمع المدني المتعاطفين مع الحزب).
• عقد اللقاء الوطني لخبراء الحزب في بداية شتنبر، وتشكيل فرق عمل متخصصة لإعادة تجديد العرض البرنامجي للحزب، والتعاقد مع فرق العمل على أساس دفاتر تحملات محددة.
• الإعلان بمناسبة اللقاء الوطني لخبراء الحزب عن تشكيل المجلس الإداري لأكاديمية الحزب والمباشرة في إعداد برنامج عملها.
تلكم بعض التدابير العملية، من أجل تجديد العرض السياسي والبرنامجي للحزب، وفق نهج قائم على الحزم والواقعية والعمل الجماعي والمسؤولية والتعاقد، وعدم الالتفات ل “عوائق الطريق”، الرامية إلى إلهائنا عن مهامنا الحقيقية.
تلكم معالم طريق الانبعاث، الطريق إلى المؤتمر الوطني الرابع للحزب، وعلى هذا النهج نمضي قدما في المساهمة في القيام بأدوارنا الدستورية في ظل مجتمع ديمقراطي، متنوع وتعددي.
IV: شروط إضافية لبلوغ الانبعاث كامل مداه
في سياق الدعوة الى مباشرة العمل في الأوراش والبرامج السالفة الذكر باعتبارها مقدمات لا بد منها لانبعاث جديد، ثمة قضايا جوهرية مرتبطة بمواقف وبتموقع الحزب في المشهد السياسي الوطني وبالرهانات والتحديات المطروحة على جدول أعمال بلادنا والتي تزيدها التحولات والتقلبات المترتبة عن المحيط الجهوي والدولي تعقيدا وضراوة- قضايا يعتبر إبرازها والتذكير بها وإعادة تعريفها بالوضوح اللازم شرطا ضروريا لبلوغ الانبعاث الذي ننشده مداه الكامل.
ومن أهم هذه القضايا:
• الموقف من مشاريع الإسلام السياسي
سيظل حزب الأصالة والمعاصرة حاملا لمشروع مجتمعي قائم على قيم تامغربيت، مشروع استكمال بناء الدولة الوطنية الحديثة على أساس قيم المواطنة والديمقراطية مع ما تقتضيه من تداول سلمي على السلطة، مشروع على النقيض من مشاريع الإسلام السياسي المستوردة من بيئة ثقافية مختلفة، والحاملة لتهديدات جدية لقيم المشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي، ولتنوعنا الثقافي ولمبادئ الإسلام المغربي السمح ذاتها، ولمختلف مؤسساتنا الدستورية والسياسية.
وسيظل الحزب في طليعة القوى السياسية التي تعمل على الحد من الآثار السياسية والمجتمعية السلبية لمشاريع الإسلام السياسي سواء منها تلك التي في التسيير الحكومي أو التي في خارجها، وذلك بكل الوسائل التي يكفلها الدستور والقانون. وكل من يوهم، من حزبنا، الرأي العام، بإمكان تغيير هذا الموقف الثابت، فهو لا يمثل خط الحزب، ولا يعدو تمثيل رغباته الذاتية التي لا تعني مؤسسات الحزب في شيء.
ويجدر بنا هنا أن نوضح، إن كانت هناك حاجة إلى ذلك، بأن موقفنا الثابت من الإسلام السياسي ليس تعبيرا عن تنافس عادي بين فرقاء سياسيين منضبطين لمنطق التنافس الحر حول برامج انتخابية واضحة، وهو ما نفتح له أذرعنا بلا تردد وبكل احترام للأحزاب المتنافسة، بل إن موقفنا يرتكز إلى مرجعيتنا الحداثية والديمقراطية وما يمليه علينا وعيُنا الحاد بضرورة التموقع التاريخي – بكل أمانة وحزم – ضمن الصف الوطني بكل تنوعه، في وجه كل انزياح عن مسار بناء الدولة الوطنية الحديثة، أكان ذلك عن طريق خلق النعرات الطائفية، أو إضعاف الانتماء للوطن على أساس “هوية” دينية مستوردة باتَ أصحابها أنفسهم يتبرأون منها اليوم، أو إستغلال الفئات المعوزة “بالمساعدات العينية” باسم الدين، أو الإيهام بأن التنافس القائم هو تنافس بين مناصري الدين الإسلامي والمناهضين له.
يضاف إلى ذلك توجسُنا المشروع من اندراج ظاهرة الإسلام السياسي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في إطار حسابات القوى الكبرى من أجل السيطرة على هذه المنطقة من العالم، مع ما تفرَّع عنه من تعطيلٍ لمسارات بناء الدولة الحديثة عن طريق اختلاق ودعم حركات دينية تستثمر ارتباط المواطنين بدينهم الحنيف كي تزيغ قطار هذا البناء عن سكته في كل بلد من منطقتنا يتأتى لها فيه ذلك.
إن هذا التوجس لم يزدد إلا رسوخا بالنظر للأحداث المتلاحقة خلال السنوات الأخيرة في منطقتنا التي استحالت إلى خراب، وهو ما أكدته العديد من تصريحات واعترافات مسؤولي القوى الكبرى أنفسهم.
• علاقة الحزب بمختلف مؤسسات الدولة والسلط الدستورية
خلافا للرواية التي أراد لها خصوم الحزب، من مختلف المواقع، دعاية وانتشارا ومحاولة للترسيخ في الذاكرة الحزبية الوطنية، ما كان تأسيس حزب الأصالة والمعاصرة تدبيرا مصطنعا، ولم تتعد أبدا علاقته مع مختلف مؤسسات الدولة والسلط الدستورية نطاق الدستور والقوانين التنظيمية والعادية المحددة لأدوار الأحزاب السياسية، شأنه في ذلك شأن جميع الأحزاب السياسية على قدم المساواة ودون تمييز.
ومن المؤسف فعلا أن ينجح خصوم الحزب، وبطريقة غير مباشرة، بعض أعضاء حزبنا لأسباب ذاتية وانتهازية محضة، في تسويق سردية وهمية مبنية على ما يسمى ب “أسطورة التحكم” و”الفوق”، وهي الأسطورة التي تفننت في نسجها، دعاية وتسويقا، قوى الإسلام السياسي وسايرها في ذلك، كل من بقي، في منظوره للمشهد السياسي الحالي، سجين الزمن السابق على 1999.
غير أنه لا بد أن نقر هنا بأن عددا من التصرفات والانزلاقات قد استثمرتْ حالة من الغموض تسربت داخل الحزب وقد وصلت لحظة المكاشفة والتواضح بشأنها. يتعلق الأمر بتصورنا لعلاقتنا بالدولة ودائرة القرار السياسي.
لقد لف الغموض شيئين متمايزين: من جهة اضطلاعنا بنصيبنا في النهوض بالمهمة التاريخية التي تتمثل في ترسيخ الاختيار الديمقراطي الحداثي في منطلقاته ومراميه الإستراتيجية الكبرى، مع ما للملكية من دور أساسي فيه، ومن جهة أخرى الاصطفاف مع الدولة بدون قيد ولا شرط.
لقد اختلط لدى البعض تصرفنا الاستراتيجي الذي يعني كامل الدعم للبناء الديمقراطي الصبور، اختلطَ عليه مع تصرفِنا السياسي الذي يفترض كامل الوضوح في استقلالية قرارنا الحزبي. هذا الوضع خلق الكثير من اللبس لدى العديدين بمن فيهم فاعلون حزبيون ورأي عام ففتح الإمكانية للانتهازيين بيننا لكي يؤولوا هذا الوضع بشكل انتهازي ويشحذوا سكاكينهم من أجل الظفر بنصيب من الكعكة التي يتمنون ويتصورون أنها من نصيبهم، وكم يخطئون الحساب.
علينا اليوم أن نشمر على ساعد الجد وننخرط في العمل السياسي الصبور والدؤوب ونتخلى عن كل أوهام الحظوة الموهومة، وفي مقدمتها ” وهم” ادعاء البعض منا قربه من ” الفوق”.
• نطاق تحالفات الحزب
يمد الحزب يد التحالف والتعاون والتنسيق والشراكة إلى كافة الأحزاب السياسية الحاملة لمشاريع سياسية دنيوية، متى التقت مع حزبنا حول قيم مشتركة للمشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي، أو حول أرضيات تتعلق بخيارات سياسية، اقتصادية واجتماعية وثقافية مشتركة، أو حول قضايا محددة (مشاريع أو مقترحات قوانين أو قضايا مجتمعية أو سياسات عمومية) يمكن أن تكون محلا لبناء ائتلافات موضوعاتية.
وضمن نفس الرؤية، يمد الحزب يد التعاون والتنسيق والشراكة إلى النسيج المدني الديمقراطي الحداثي الحامل لنفس القيم والعامل على تنمية المواطنة والمشاركة السياسية والحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية و الثقافية والبيئية والتنمية المجالية المستدامة، والساعي إلى تطوير توسيع وترسيخ الصف الحداثي والتجاوز التدريجي للقواعد السياسية المرعية في مراحل سابقة، وذلك على قاعدة بناء تحالفات أو ائتلافات موضوعاتية أو مجالية مرتكزة على تعاقدات شفافة وواضحة وباحترام استقلالية الفاعلين الحزبيين وغيرهم واحترام أدوارهم الدستورية.
ويترتب على هذه الرؤية ألا تحالف مع حاملي مشاريع سياسية تستغل الرأسمال الرمزي للدين الإسلامي المشترك بين جميع المغاربة. وكل من يوهم، من حزبنا، الرأي العام، بإمكان تغيير هذا الموقف الثابت، فهو لا يمثل خط الحزب، ولا يعدو تمثيل رغباته الذاتية التي لا تعني مؤسسات الحزب في شيء.
• خصائص الخطاب السياسي للحزب
سيظل خطاب حزب الأصالة و المعاصرة متسما بالواقعية، والصراحة والعقلانية والروح النقدية المسكونة بهواجس المساهمة في البناء ، سواء مع النفس أو مع باقي الأطراف في الساحة السياسية مع الإصرار على استقلالية القرار الحزبي، والنأي عن العدمية والتبخيس، والاحترام الواجب للأحزاب المتنافسة، خطابا يهدف إلى تنمية قيم المواطنة المسؤولة وتقوية حس التمييز لدى المواطنات والمواطنين بين المشاريع السياسية المختلفة، كما سوف نحرص على النأي بالخطاب السياسي للحزب عن الاستثمار السهل والمدمر في آن في الخطابات الشعبوية بتلويناتها المختلفة، لاسيما شعبوية الإسلام السياسي.
V : رؤية متبصرة وأسئلة عالقة
تتيح إعادة قراءة وتحليل الخطابات السامية التي وجهها جلالة الملك للأمة خلال المرحلة الممتدة من 2012 الى 2018، وعددها 28 خطابا، ينضاف اليها عدد مقدر من الرسائل الموجهة للمناظرات والتظاهرات الوطنية والدولية، الوقوف على مفاتيح تلخص بشكل مكثف رهانات وتحديات مغرب ما بعد دستور 2011، يمكن اجمال ما يتعلق منها بالأبعاد الداخلية للأجندة الوطنية المزدحمة بالمهام كما يلي:
الجهوية واللامركزية واللاتمركز (68 مرة) – المنتخبين (18 مرة) – الأحزاب (18مرة) – الحكومة (45مرة) -الصحراء(78مرة) -اصلاح(77مرة) -الثقة(22مرة) -الاقتصاد(94مرة) -الصحة والتعليم والقضاء والإدارة(81مرة) -التنمية(108مرة) -الشباب(79مرة).
وفي سياق التشديد على الرهانات والتحديات المرتبطة بالأولويات المشار اليها، وجه جلالة الملك، بلغة غير مسبوقة في صراحتها وحزمها، رسائل عديدة للطبقة السياسية، من حكومة وبرلمان وأحزاب ونقابات، ركزت على جملة من المواضيع تراوحت – فيما يرتبط بالممارسة السياسية- بين تشخيص الأعطاب البنيوية التي تشكو منها الأحزاب السياسية وبين تقديم مفاتيح ومداخل الإصلاح السياسي وترتيب أوراش العمل المرتبطة به.
وهكذا فان مواضيع من قبيل ضعف تمثل الفاعلين السياسيين ” لأمانة تمثيل المواطنين باعتبارها أمانة عظمى” ، وتقاعسهم عن الاضطلاع بواجباتهم الدستورية في التواصل مع المواطنين، والترافع عن انتظاراتهم ومطالبهم المشروعة، و القيام بأدوار الوساطة، وافساح المجال أمام الشباب لتحمل المسؤولية ، والعجز عن ابداع حلول مبتكرة لمعضلات الاقتصاد والاجتماع من خلال سياسات عمومية، وما يرافق ذلك وغيره مما رصدته الخطابات الملكية من” تراجع للأحزاب السياسية وممثليها، عن القيام بدورها، عن قصد وسبق إصرار أحيانا، وبسبب انعدام المصداقية والغيرة الوطنية أحيانا أخرى” .
ولقد كانت احدى أقوى وأفصح لحظات مواجهة الطبقة السياسية بالحقيقة تلك التي أثار فيها جلالة الملك ضعف وتدني منسوب ثقة المواطنين في السياسيين، الى الحد الذي جعله يطرح سؤاله المدوي: “وإذا أصبح ملك المغرب، غير مقتنع بالطريقة التي تمارس بها السياسة، ولا يثق في عدد من السياسيين، فماذا بقي للشعب؟”، مضيفا: “لكل هؤلاء أقول: “كفى، واتقوا الله في وطنكم… إما أن تقوموا بمهامكم كاملة، وإما أن تنسحبوا”.
هذا بالإضافة الى وقوف جلالته على عطب يتخذ شكل المرض المستشري، حينما … ” تتسابق الأحزاب والطبقة السياسية والمسؤولون، إلى الواجهة، للاستفادة سياسيا وإعلاميا، من المكاسب المحققة … عندما تكون النتائج إيجابية ….. أما عندما لا تسير الأمور كما ينبغي، يتم الاختباء وراء القصر الملكي، وإرجاع كل الأمور إليه”.
ان الحقيقة المفجعة التي ينبغي المجاهرة بها هي أنه وعلى الرغم من تشخيص جلالته الدقيق والصريح لأمراض وأعطاب المؤسسة الحزبية وتقديمه لرؤية متبصرة متضمنة لخرائط طريق، بمداخل ومفاتيح متقدمة، لتطوير العملية السياسية ببلادنا برمتها، كي يتأتى لها أن تتقدم، بالوتيرة المطلوبة، على درب التنمية والديمقراطية والحداثة، الا أن ما يلاحظ، وتلك هي القصة المفجعة في الموضوع، هو انصراف “حليمة الى عادتها القديمة”، غير عابئة بمتطلبات وضرورات التجديد والتغيير في العقيدة والمنهج والفكر وأساليب العمل.
والنتيجة، وهذا وجه آخر من الحقيقة المرة التي ينبغي الإقرار بها، هي أن الأسئلة التي طرحها جلالة الملك على الطبقة السياسية، التي نحن جزء منها، بقيت في معظمها عالقة بدون أجوبة جادة ممن يعنيهم الأمر.
أفلا يكون من الصواب، في حالتنا، حالة حزب الأصالة والمعاصرة، الإقرار باستحالة الاستمرار على المنوال نفسه؟ أليس من الصواب أن نقر باستحالة الذهاب نحو الاستحقاقات القادمة، وباستحالة نجاحنا في تقديم مساهمتنا الوطنية في معركة التصدي للتحديات التي تجابه البلد، في الحاضر والمستقبل، دون القيام بمراجعات عميقة تدريجية من خلال: تنقية باب الدار وجنبات البيت، ومباشرة معركة التخليق بكل شجاعة، وممارسة النقد الذاتي بدون عقدة نقص، وإعادة تعريف فكرة الحزب، ذاتها، بكل حزم ومسؤولية.