قراءة على هامش المادة 17 من مشروع قانون المسطرة المدنية

كتبه : ذ عبد الإلله المستاري
على اثرتقديم مشروع قانون المسطرة المدنية ومناقشته من قبل لجنة العدل والتشريع بالبرلمان اثارت مقتضيات المادة 17.من نفس المشروع جدلا واسعا في صفوف عدد من الحقوقيين والمحامين والجامعيين والمهتمين بالموضوع وتنص مقتضيات المادة 17 المذكورة على مايلي:
“يمكن للنيابة العامة المختصة وان لم تكن طرفا في الدعوى، ودون التقيد باجال الطعن المنصوص عليها في المادة السابقة؛ان تطلب التصريح ببطلان كل مقرر قضائي يكون من شانه مخالفة النظام العام.
يتم الطعن امام المحكمة المصدرة للقرار بناء على امر كتابي يصدره الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض تلقائيا او بناء على احالة من الرئيس المنتدب للمجلس الاعلى للسلطة القضائية في حالة ثبوت خطا قضائي اضر بحقوق الاطراف ضررا فادحا.”
فدون الخوض في تفاصيل الحمولة التي جاءت بها مقتضيات المادة المذكورة من الناحية الدستورية؛ يمكن القول بان المنحى الذي سلكه المشروع لم يبسبق ان تم الوقوف على مثله في التشريع المدني او الفقه الاجراءي او المسطري.
فالصلاحيات الواسعة التي منحت للنيابة العامة في المادة المدنية لم يمنحها المشرع لهذا الجهاز في المادة الزجرية او الجنائية على الرغم من ان النيابة العامة هي طرف اصيل ورءيسي في الدعوى العمومية ولها رقابة مفصلية على القرارات الصادرة في المادة الجنائية من خلال ممارسة طرق الطعن المخولة لها قانونا ،وقد تندرج قضايا النظام العام بصفة عامة ضمن الحالات المشمولة بطرق الطعن الا مااستثني ،حيث حدد المشرع في قضايا نادرة وجد محدودة؛ الكيفية التي يتم بها رفع تلك القضايا للمحكمة لمعاينةالبطلان، من ذلك على سبيل المثال لا الحصر؛ بطلان اجراءات التحقيق… والتفتيش الغير القانوني لبعض المحلات… حيث لم يقيد المشرع بعض االحالات الخاصة باجل محدد لرفعها الى المحكمة.
هذا بالنسبة للمادة الجنائية. اما وان تتضمن مقتضيات مدنية محضة ؛منح النيابة العامة بصفة مطلقة خاصية الطعن في جميع الاحكام والقرارات التي من شانها ان تخل بالنظام العام دون تحديد نوعية هذه القضايا ودون التطرق الى محددات النظام العام الذي له مفهوم عام وواسع قد تندرج ضمنه حتى القرارات القضائية التي اتت على خروقات قانونية لانها تخل بالامن القانوني وتمس بالتوازنات الاجتماعية والمالية والاقتصادية حيث خصها المشرع فقط بطرق الطعن المخولة قانونا للاطراف في الدعوى باعتبارها تحمي حقوقا خاصة .
هذا ناهيك عما يمكن ان يترتب عن هذا الاجراء من اخلال بقدسيةوهيبة الاحكام والقرارات القضائية المكتسبة لقوة الشيء المقضي به نتيجة لاستيفاءها لكافة طرق الطعن؛ لياتي بعد ذلك تدخل النيابة العامة للطعن في تلك الاحكام والقرارات تحت ذريعة انه تم اكتشاف انها تنطوي على اخلال بمرتكزات النظام العام طالما ان المشرع لم يحدد اية شكليات ولا اجال لممارسة هذا الاجراء الذي يبقى مفتوحا على مصراعيه وربما من المحتمل اللجوء اليه في اي وقت من الاوقات؛ حتى بعد انصرام امد التقادم..!، مادام اجل انطلاقه ظل مسكوتا عنه ؛مما يجعله ينقلب الى نتيجة عكسية تصبح ممارسته في مثل تلك الاحوال في حد ذاتها قد تشكل اخلالا بالنظام العام؛ من جراء اثاره الوخيمة على مستوى تفكك النسيج الاجتماعي نتيجة ضعف الثقة في القرارات القضائية التي تم ابطالها بعد ان كانت مكتسبة لقوة الشيء المقضي به وتغيير المراكز القانونية،واهتزاز المعاملات المدنية والتجارية وحتى الاسرية؛ ممامن شانه ان يعصف في نهاية الامر بالنظام العام الاقتصادي والأسري.
والمشرع من جهة اخرىسبق ان حدد في الفصل 9 من قانون المسطرة المدنية الحالي؛ عدة قضايا خول للنيابة العامة حق التدخل فيها وتحال عليها بقوة القانون من قبل المحكمة،او بطلب منها للادلاء بمستنتجاتها، ولم يمنح للنيابة العامة حق الطعن فيها بما في ذلك قضايا النظام العام المنصوص عليها في الفصل المذكور؛ باعتباران النيابة العامة هي مجرد طرف منضم في تلك القضايا.(اللهم اذا ارتاى المشرع ان يجعل النيابة طرفا رءيسيا في قضايا النظام العام في تعديل لاحق انسجاما مع ماجاء في الفقرة الاولى من المادة 17اعلاه).
ونفس المنحى سلكه المشرع في القضايا المتعلقة بتذييل الاحكام الاجنبية بالصيغة التنفيذية طبقا للفصل 430 من ق م م ؛ رغم ان بعض القضايا قد تصدر خرقا لقواعد النظام العام،ومخالفة لمقتضيات القانون الوطني ؛ومع ذلك فالنيابة العامة لا تملك حق الطعن فيها .
وقد اكدت هذا التوجه محكمة النقض في القرارعدد: 567الصادربتاريخ23اكتوبر2018 في الملف الشرعي301/1/2/2017
.الذي اعتبرت فيه ان دعوى تذييل الاحكام الاجنبية بالصيغة التنفيذية؛ هي دعوى تواجهية في غيرالقضايا المتعلقة بانحلال ميثاق الزوجية التي لاتقبل الطعن فيها الا من طرف النيابة العامة باعتبارها وحدها الطرف المدعى عليه..
فاذن الطعن يكون مقبولا من قبل النيابة العامة في حالة واحدة فقط اذا تعلق الامر بقضاياانحلال ميثاق الزوجية، اما غير ذلك من القضايا المرتبطة بتذييل الاحكام بالصيغة التنفيذية فلا يحق للنيابة العامة ممارسة الطعن فيها ولو كانت تلك القرارات تنطوي على خرق لمتعلقات النظام العام.(وهذه المقتضيات تحتاج الى تعديل لسد الفراغ الحاصل وتمكين النيابة العامة من ممارسة الطعن في هذه الحالة).
فكيف يمكن اذن هدر كل هذه المباديء والقواعد ومنح النيابة العامة صلاحيات واسعة في تقدير مفهوم النظام العام لوحدها، والمطالبة ببطلان تلك الاحكام الصادرة في مختلف القضايا المشوبة في نظرها بالبطلان، ولو تعلق الامر بقضايا تتعلق بحقوق شخصية صرفة من قبيل قضايا الكراء والاستحقاق… والشفعة….والتعويض في قضايا المسؤولية التقصيرية.والقضايا التجارية والادارية..والاسرية……الخ
فكان من الاجدى تحديد قضايا معينة ومحدودة لمنح هذا الحق للنيابة العامة؛ مع تحديد طبيعة الشكليات التي في اطارها يتم ممارسة هذا الاجراء بكيفية دقيقة وبصيغ لاتحتمل التاويل.
علما ان اي عمل تشريعي جديد ياخذ عادة بعين الاعتبار العمل القضائي الثابت والمسترسل ليستمد منه روح وجوده ويرتقي به الى مرتبة التشريع لانه اصبح بتواثر العمل به بمثابة قاعدة قانونية مادام لايخالف روح النص.
وبخصوص عبارة الاحالة المتعلقة بالرئيس المنتدب للمجلس الاعلى للسلطة القضائية ؛فيبدو من ظاهر تنصيصات الفقرة الثانية من المادة17اعلاه ان المقصود بالاحالة يمكن ان تتعلق مثلابالوثائق التي عرضت على الرئيس المنتدب من خلال حالة معروضة على نظر المجلس تتعلق بقاض متابع تاديبيا من اجل ارتكابه لافعال شاءنة كانت سببا مباشرا في اصدار حكم مخالف للقانون والنظام العام ؛الحق ضررا فادحا باحد الاطراف.واما بطلبات قدمت اليه من قبل احد الاطراف المتضررةفيوجه تلك الوثائق الى الوكيل العام للملك بمحكمة النقض للاختصاص بصفته رئيسا للنيابة العامةوليس بالاحالة المباشرة على هياة المحكمة،من لدن الرئيس المنتدب لان الرئيس المنتدب للمجلس الاعلى للسلطة القضائية يتراس مجلسا يختص بالنظر في الوضعية الفردية للقضاة وما يرتبط بها من تعيين…. وترقية وتاديب… وانتقالات.. ووضع حد لمزاولة المهام. ….الخ وبالتالي فمن غير المستساغ وبمقتضى هذه الصفة ان تسند اليه مهام قانونية في مجالات اخرى تخص اطراف الدعوى،لا علاقة لهابوضعية القضاة الادارية…
فالفقرة الثانية من المادة 17 السالفة الذكر قد منحت هذه الصلاحية التقريرية بصفة حصرية لرئيس النيابة العامة احتراما للتنظيم الهيكلي والتسلسل الرئاسي للنيابة العامة الذي يحيلها بدوره بمقتضى قرارصريح على النيابة العامة بالمحكمة المختصة المصدرة للحكم ؛للمطالبة بالتصريح ببطلان الحكم المخالف للنظام العام.
فرءيس النيابة العامة بصفته تلك يتخذ هذا القرار اما تلقائيا بسبب حالة عرضت عليه شخصيا بنيابته، واما بموجب وثائق احيلت عليه من طرف الرئيس المنتدب للمجلس الاعلى للسلطة القضائية حسب الحالات المشاراليها سلفا، واما بناء على طلبات قدمت اليه من احد الاطراف المتضررة.
هذا من باب التوضيح ليس الا.
ومهما يكن من امر فكل الاجراءات المنوه عنها سابقا تتعلق اساسا بقرار قديبطل كل الاحكام والقرارات التي كسبت حجيتها وقوتها المطلقة عبر نسق قانوني خاضه الاطراف وذلك صونا للحقوق واطمئنانا للنفوس واستقرارا للمعاملات.
وهذه هي الغايات الفضلى التي يسعى لتحقيقها المجتمع التي تقوي الشعور والاحساس بالعدل والانصاف بما يكتب له الطمانينةوالاستقرار في مختلف اوجه نشاطه الحيوي الدؤوب ..
وكما قيل:” فالقانون هو اداة لتحقيق العدالة، وليس غاية في حد ذاته .
.