لا تنشر هنا

الجزائر: هل هي بداية نهاية أحمد قايد صالح؟

زهير داودي*

يبدو أن تطورات الأحداث في الجارة الشرقية للمملكة بدأت تأخذ منحى تصاعدياً، وبوتيرة أسرع، مقارنة مع بداية خروج المواطنين الجزائريين (يوم 22 فبراير المنصرم) للإحتجاج على ترشح عبد العزيز بوتفليقة لعهدة رئاسية خامسة. فبعد “الإنقلاب” المفاجئ في موقف أحمد قايد صالح، رئيس أركان الجيش ونائب وزير الدفاع، على بوتفليقة ولي نعمته ومن يدورون في فلكه، تسارعت الضربات القوية من هذه الجهة ومن تلك من أجل احتكار رسم وتحديد المستقبل السياسي للبلاد.

كل هذه التطورات تحدث في ظل استمرار تأكيد الشارع على ضرورة اجتثاث النظام القائم من جذوره العميقة ليشمل كل رموزه الفاسدين، وهو تأكيد جسدته العبارة القوية والشهيرة المكتوبة بأحرف بارزة على اللافتات الكبيرة التي رفعها المتظاهرون في الجمعة الثامنة من الإحتجاجات السلمية المليونية الحاشدة: “يتنحاو كاع” (ليتنحوا جميعاً).

لقد استبق معسكر بوتفليقة عزلاً أكثر إهانةً وإذلالاً بتقديم استقالةٍ قيل إنها “طوعية”، وذلك في محاولة لإرباك حسابات المؤسسة العسكرية التي لا يبدو أن قايد صالح له الكلمة العليا فيها، فالرجل معروف عنه أنه كان من بين زبانية النظام، وكان من كبار المطبلين والمهللين لترشيح بوتفليقة في الإنتخابات الرئاسية، ولا يُنْسَى له وعيده وتهديده للمحتجين في بداية نزولهم إلى الشارع في مختلف الولايات والمدن، إلى درجة أنه قد يُعْتَقَدُ بوجود إتفاق/مؤامرة بين معسكر بوتفليقة وقايد صالح بغرض اختطاف الحراك الشعبي، والتظاهر بوجود نية مبيتة لدى رئيس أركان الجيش من أجل محاسبة رفاقه القدامى، وهو ما يُتَّهَمُ به عوض بن عوف، وزير الدفاع السوداني، الذي بادر إلى الإعلان عن اعتقال الرئيس عمر البشير ومحاسبته.

إن ما حدث ويحدث في السودان لا يمكن ألا يحسب له تأثير كبير على مجريات الأحداث السياسية وتسارع الوقائع الميدانية في الساحة الجزائرية، مع الإختلاف – طبعاً – في البنية السياسية للدولتين، واختلاف العلاقة بين البشير/عوف وبين بوتفليقة/قايد صالح.

شخصية كهذه (أحمد قايد صالح) لا تتمتع بالكاريزما اللازمة نظراً لما شاب خرجاتها الرسمية من نبرةٍ تتسم بالتردد وعدم الحسم، مما حدا بذئاب معسكر بوتفليقة إلى خلط الأوراق بإعطاء الفرصة لأحد أعمدة النظام، ممثلا في رئيس مجلس الأمة عبد القادر بن صالح (77 سنة)، ليشغل منصب رئيس الدولة مؤقتاً لمدة 90 يوماً، وهي مدة سيكون على بوتفليقة وحاشيته أن يحسموا خلالها في مصيرهم ومصير من يرعون مصالحهم، وخلط الأوراق لا يقتصر على هذا المستوى وحسب، بل يتعداه إلى محاولة إقناع مسؤولين عسكريين آخرين بضرورة تجنيب البلاد مواجهات بين المواطنين والمؤسسة العسكرية.

نحن نَرَى أن “مجاراة” الفريق أحمد قايد صالح (79 سنة) لمعسكر بوتفليقة بتعيينه عبد القادر بن صالح رئيساً مؤقتاً للجمهورية في إطار أحكام الدستور، ما هي إلا إستراتيجية من أجل إذكاء روح الشارع والإصرار على طرد فلول بوتفليقة من المشهد، مما سيسمح للجيش بالتدخل والإسراع بحسم الصراع لصالحه. إنه تَهْيِّيجٌ للشارع سيوفر، لا محالة، فرصةً للمؤسسة العسكرية بقصد التدخل في إطار إستثنائي بما يمكنها من وضع اليد بشكل مطلقٍ و”مبررٍ”، في الداخل كما في الخارج، على المشهد السياسي المتسم بسطوة مطلقة للغضب الشعبي الذي هَمَّشَ كل أحزاب المعارضة بحيث لم يكن لها أي دور في تعبئة الشارع ضد النظام.

ومن الواضح جداً أن التدخل العنيف لقوات الشرطة الجزائرية باستخدام الغاز المسيل للدموع لتفريق المتظاهرين، واستفزازهم في محاولة لتجريد الحراك الشعبي من طابعه السلمي، يقدم الدليل الملموس على النية المبيتة للجيش من أجل الإنقضاض وفرض واقع “النظام الجديد”، وما تلويح قايد صالح بمحاسبة “العصابة” إلا “بالون اختبار” لقياس رد فعل الشارع إزاء ما سيطالب به بعد فتح باب الترشح للإنتخابات الرئاسية المقرر تنظيمها في الرابع من شهر يوليوز المقبل، ومدى تجاوب المرشحين المفترضين للتقدم إلى استحقاق الرئاسيات في مثل هذه الظروف الصعبة والمعقدة.

لماذا؟ إن أي تدخل في الظروف السابقة كان سَيُفَسَّرُ ضد الجيش على اعتبار أنه قام بانقلابٍ غير دستوري كان سَيُعَقِّدُ مهمته خاصة على مستوى الإعتراف بمشروعية ما قام به. ويبدو أن المؤسسة العسكرية تسعى إلى “تَفْوِيضٍ وأَمْرٍ” من الشعب كما فعل عبد الفتاح السيسي حين طالب المصريين بالنزول الحاشد إلى الشوارع من أجل منحه “تَفْوِيضاً” لاجتثاث واستئصال “جماعة الإخوان المسلمين” ومن يدور في فلكها.

إن البلاغ العسكري الأخير لقايد صالح (2 أبريل 2019) الذي وَصَفَ فيه معسكر بوتفليقة ب”العصابة التي حاولت الإلتفاف على مطالب الشعب”، وهو نفس منطق عبد الفتاح السيسي الذي وَصَفَ “جماعة الإخوان المسلمين” ب”الجماعة الإرهابية والإستئصالية”، سيليه – تحت ضغط الشارع المتماسك – بلاغ آخر قد يَطْلُبُ فيه الجيش “تَفْوِيضاً وأَمْراً” من أجل الشروع في عملية اجتثاث حقيقي لجذور “العصابة”، مما سيسمح للمؤسسة العسكرية بالتدخل مباشرة لإدارة المرحلة الإنتقالية بما يرعى مصالحها ومصالح من يدعمها في الداخل والخارج. لكننا نُصِرُّ على أن التاريخ سَيُعِيدُ نَفْسَهُ في الحالة الجزائرية كما وقع في مصر إبان انقلاب الجيش على الملك فاروق الأول، وتكليف واجهةٍ (اللواء محمد نجيب) بإدارة صورية إلى أن تَمَكَّنَ جمال عبد الناصر من أخذ زمام الأمور وسحق العائلة الملكية المصرية وكسر شوكة الأعيان والبورجوازية الصناعية، أو كما فعل الفريق أول عبد الفتاح السيسي حين جعل المجلس العسكري واجهةً للتغلغل الممنهج في كل دواليب الدولة وأجهزتها المتشعبة، وتكليف رئيس مؤقت (عدلي منصور) بعد “التفويض/الأمر” الذي طلبه من الشعب الذي خرج إلى الشارع يوم 30 يونيو 2013.

تدبير كهذا لا بد وأن تكون وراءه عقول مدبرة تَسُوسُ في الكواليس، وسَتَظْهَرُ في الوقت المناسب لقيادة المرحلة خاصة وأن أحمد قايد صالح يُعْتَبَرُ دُمْيَةً من دمى النظام الحالي الذي لا يمكن أن نَصِفَهُ بالنظام السابق، إذ لا يمكن الحديث عن نهاية نظام قائم منذ عقود لمجرد عدم تَقَدُّمِ بوتفليقة للإنتخابات من أجل عهدة خامسة وتقديم استقالته بضغط من حركة الإحتجاج الشعبي. لقد بات من المؤكد أن المرحلة القادمة بالنسبة للجزائر لن تبدأ إلا إذا أُزِيحت، على الأقل، الطبقة السميكة للنظام الحالي، وتولي أناس نُرَجِّحُ أن يكونوا بخلفية عسكرية وبدلة مدنية، وأن يُكَرِّرُوا “سيناريو السيسي” مع بعض الإختلافات الشكلية وبعض الخصوصيات الداخلية.

وعلينا أن لا نغفل بأن ما حدث في السودان بعدما أطاح الجيش بعمر البشير، لم يُواجه بمواقف دولية قوية وبتنديدات وازنة وحازمة كان يجب أن تليها تهديدات بفرض عقوبات على الخرطوم إلى حين العودة إلى التسيير المدني، وأغلب ردود الأفعال الخارجية اكتفت بالدعوة إلى “الهدوء وضبط النفس”، والإعراب عن الأمل في “تحقيق التطلعات المشروعة للشعب السوداني من خلال عملية ديموقراطية طبيعية…”، باستثناء الموقف الروسي الذي اعتبر الأمر “انقلاباً عسكرياً”. وهذه المواقف الدولية “الخجولة” قد تذكي حماس المؤسسة العسكرية الجزائرية، وتفتح شهيتها لاستنساخ سيناريو الإنقلابات العسكرية. فهل يمكن اعتبار صمت القوى الدولية المؤثرة على ما حصل في السودان بمثابة “ضوء أخضر” لمزيد من الإنقلابات العسكرية قد تكون المؤسسة العسكرية الجزائرية حصلت عليه؟!

من الواضح أن الرهان سيكون على من يضمن “الإنتقال في ظل الإستقرار” مع مراعاة بعض المصالح الداخلية والخارجية، ومحاولة الحفاظ على “أسطورة” الدور “المحوري” للجزائر في المنطقة، حيث نَتَوَقَّعُ أن تستمر المعاكسة الجزائرية للمصالح المغربية على – الأقل – في بداية المرحلة الجديدة حتى لا يظهر النظام الجديد “مهادناً” للمملكة إلى أن يَتَبَيَّنَ الخيط الأبيض من الخيط الأسود للحكام الجدد، ويسلموا بأن مصلحة الجزائر ستكمن في الإنخراط المسؤول والجاد في “دينامية تنموية جهوية” قد تمتد إلى ما وراء اتحاد المغرب العربي الذي بات حلماً مستعصي التجسيد في الواقع، لتشمل انضمام دول لها وزنها في المنطقة.

نحن لا نَعْتَقِدُ بأن الجغرافية والتاريخ هما العاملان الرئيسان لقيام تكتلات جهوية بأفق إستراتيجي، بل إن الأمر يتعداهما إلى ما هو مشترك من قيم ومبادئ وأهداف تُحَدِّدُ مَعَ مَنْ يتم التحالف بهدف الرقي بالعلاقات الثنائية والمتعددة الأطراف وصولاً إلى هدف تشكيل قطب له تأثير كبير وفاعل في محيطه القريب والبعيد. وعندما نتحدث عن “دينامية تنموية جهوية” خارج إطار اتحاد المغرب العربي، فالمقصود هو انضمام بعض دول شمال حوض المتوسط وبعض الدول الإفريقية الواقعة في منطقة الساحل والصحراء، إلى هذه الدينامية.

من المحقق أن الجزائر تحتاج، في هذه المرحلة الدقيقة، إلى دعم مختلف الأطراف الداخلية والخارجية من أجل القطع مع مرحلة سوداء محفورة في حوليات تاريخها السياسي، لتكون في الموعد مع التنمية الحقيقية وليس تلك القائمة على اقتصاد الريع والأوليغارشية وإذلال الشعب والدوس على كرامته وحقوقه المشروعة، وهذا لن يتأتى إلا بوصول نخبة سياسية ناضجة وراشدة إلى سدة الحكم، ولا تحمل الأحقاد والضغائن في قلبها وعقلها؛ نخبة تصبو إلى صياغة تعاقد سياسي جديد مع شعبها أولاً، ومع جيرانها ثانياً.

ختاماً نكرر السؤال الأساسي الذي طرحنا في مقالات سابقة: ترى من هو عبد الفتاح السيسي الجزائري؟ ومتى يُعْلِنُ عن نَفْسِهِ بشكل رسمي؟ بعدما تعرفنا على السيسي السوداني وهو، بالمناسبة، يحمل نفس الإسم الشخصي (عبد الفتاح)، ويا للصدفة الماكرة؟!!!

عبد الفتاح البرهان في منصب رئاسة المجلس العسكري السوداني بدلاً من وزير الدفاع، الخبر رسمي في انتظار خروج خبر جديد من الشقيقة الجزائر.

*صحافي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المثمر
زر الذهاب إلى الأعلى