الكثير منا يشكو سوء حظه، وفشل مسعاه في الدنيا. وجل ما يثير الحنق، ويبعث على كآبة النفس اعتلاء حفنة من غير المؤهلين متوسطي الذكاء للصدارة، بينما – في أغلب الأحيان – لا يجد المؤهلون الأكفاء من يساندهم. ولكي لا يصاب المكلوم بالمزيد من الكآبة، يعزو ذلك لسوء حظه. فهل بالفعل يوجد شيء يدعى حظا، يمكِّن كل هؤلاء من الفوز، بينما يتغافل وجودنا؟ سواء كرهنا أم أبينا، قد يكون هناك هامش من الحظ الذي قد يصيب قلة هامشية أيضاً. لكن للفوز سر، فالفوز حرفة وليس بالنصيب أو القدر، وإذا أردت الفوز يجب أن تغزل شبكة متينة لصيده. ولقد أجمل ذلك مدرب كرة السلة الشهير روبرت مونتجومري نايت، المعروف باسم Bobby Knight في مقولته: «مفتاح الفوز ليس الرغبة في الفوز، فكلنا نصبو لذلك. مفتاح الفوز هو شحذ الإرادة للإعداد للفوز، وهذا هو لب القصيد». ونستخلص من ذلك أن الفوز مزيج من الإرادة والاستعداد الجيد، أي باختصار: الفوز حرفة.
وفي ما يبدو، أن ليس لكل فرد القدرة على استيعاب حقيقة أن الفوز حرفة. وفي ما يبدو أيضاً، أن ذلك المفهوم لم يقف عند مستوى الأفراد فقط، بل تخطى ذلك، وارتقى لمستوى الدول. ومن أهم الدول التي تنبهت لمبدأ «حرفة الفوز» كانت الصين. فمرارة الفشل التي تجرعتها الصين على يد الغرب كانت حافزاً للإعداد الجيد للفوز. فبداية من القرون الوسطى في أوروبا، خاصة في القرن الخامس عشر ميلادياً، بدأت دول الغرب تعد العدة للفوز بثروات الدول الآسيوية شديدة الثراء – حينئذ – حتى تنقذ نفسها من فقر مدقع ضرب شعوبها. وواحدة من أهم الدول الآسيوية الشديدة الثراء – وقتذاك – كانت الصين. ولما أحكمت دول الغرب زمامها على الصين التي كانت تتمتع بثروات طبيعية، وزراعية طائلة، كان من أهم استراتيجيات دول الغرب للفوز بكل تلك الثروات أجمع هو ضرب أساس الصين، الذي يتمركز في وجود عنصر بشري فاعل: يقدس العمل، وولاؤه يحثه على أن يضحي بنفسه من أجل وطنه. ومن ثم، تم تدمير العنصر البشري من قبل دول الغرب، وعلى رأسها القوة الاستعمارية الكبرى بريطانيا العظمى التي كانت تعد أكبر قوى عظمى حينها. فعمدت بريطانيا على إغراق الصين بالأفيون لقرون طويلة، من خلال فتح مصانع أدوية عدة هناك، لتقنين دخول الأفيون للصين. ولما أدمن سكان الصين الأفيون، حاولت بريطانيا أن تظهر بمظهر الصديق الذي يخشى على مصالح الصين، لدرجة أنها طالبت الصين أن تجعل تجارة الأفيون تجارة قانونية، بل تفرض عليها ضرائب، لكن على الرغم من ضعفها الشديد، قاومت الصين بشتى الوسائل الممكنة لمقاومة ذلك المد، الذي من شأنه تدمير الوطن بأكمله. ووصل الحال بنائب ملك الصين – لين زيزو – في القرن التاسع عشر ـ أن يكتب رسالة يستعطف فيها الملكة فيكتوريا أن توقف تصدير الأفيون للصين، لكن بدون جدوى.
فما كان من لين زيزو إلا أن وقف وحيداً للتصدي لذلك العدوان، وبدون الرجوع لإرادة أي دولة، أوقف بنفسه تجارة الأفيون، ومنع دخوله البلاد، عاصياً بذلك أوامر ورغبات الغرب، وعلى رأسها بريطانيا العظمى. وبعد خوض حروب فعلية مريرة مع بريطانيا، قررت الصين بعد أن برأت من خطر الاستعمار، وخطر الأفيون، أن تنتقم من كل دول الغرب، بالفوز عليهم من الناحية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. وبالفعل لم يكن إحراز الفوز يسيرا، ولا كذلك الطريق إليه، فما تم هدمه على مدار قرون، لا يمكن إصلاحه في غضون سنوات قليلة. فمنذ أن حصلت الصين على استقلالها، وتم إعلان الصين جمهورية عام 1912، بدأت الصين نسج خيوط تفوقها، بهدوء وروِية. وكانت أول خطوة لها، تقييم مراكز قوتها وتعزيزها. أما عن نقاط الضعف، فحاولت السيطرة عليها، استعداداً لطمسها. وأهم، وأول درس حاولت الصين أن تنشره هو أن أسس التنمية ينبغي أن يتم على ركيزة اعتبار كيان الدولة وكأنه «فرد»، وليس دولة تضم مجموعة من أفراد متباينة الأهواء. ومن ثم، لم تجنح الصين للغرور، أو للتغني بأمجاد الماضي السحيق، أو بإحراز إنجازات واهية قصيرة المدى، لكن، وضعت المستقبل نصب عينيها.
ومن الجلي، أن الصين كانت – ولا تزال – تطبق حرفياً ما ورد من نصائح على لسان الخبير الاستراتيجي العسكري القديم صن تزو في أطروحته العسكرية الشهيرة «فن الحرب»، التي يرجع تاريخ نشرها للقرن الخامس قبل الميلاد تقريباً. ومن أهم النصائح التي تطبقها الصين هي: «أسمى أنواع التفوق هو تحطيم مقاومة العدو، بدون الخوض في أي نوع من أنواع المعارك». وعلى هذا الأساس، شكلت الصين جيشاً قوياً مخلصاً، لكن لم تكن الحرب عقيدته، بل إحكام السلطة الداخلية. وللدفاع عن الدولة من أي عدوان خارجي، كان لابد من تزويد الجيش بوسائل مساعدة فاعلة. ومن ناحية أخرى، كانت معركة الصين المستديمة، هي الثبات على شن «حرب سياسية» لهزيمة كل الدول التي ساهمت في الماضي في تخريبها، وكذلك إخضاع باقي دول العالم، حتى لا يخال أحدهم أن لديه القدرة على تقويض الصين الجديدة. ومن الجدير بالذكر أن قوام تلك الحرب السياسية هو شن ثلاث حروب متزامنة على كل دول العالم بشكل مستديم، مع وجوب ضمان الفوز فيها، وتلك الحروب الثلاث هي: حرب الرأي العام، الحرب النفسية، والحرب القانونية.
واستفادت الصين أيما استفادة من عجرفة، وتسلط الغرب، فقد آثرت الصين أن تظهر دوماً في صورة الدولة والشعب الضعيف الخانع، الذي يرضى بما يقدم له من فتات. وفي حقيقة الأمر، كانت تستخدم ذلك الخنوع الزائف كحيلة لشن حرب نفسية وحرب معلومات على الدول الأخرى، مطبقة بذلك أعظم نصيحة وردت على لسان صن تزو في أطروحته «فن الحرب»، وتلك النصيحة هي: «إذا كان عدوك عصبي المزاج، حاول أن تثيره دوماً لإغضابه. وتأكد أن تغلف نفسك بهالة من الضعف، حتى تزداد غطرسة عدوك». وبالنظر إلى حياتنا العملية واليومية، نجد أنه تحيطنا نماذج بشرية تسير على نهج الصين، تجعلنا نتعجب من بلوغها لعنان السلطة، على الرغم من محدودية ذكائها.
وترتكز الصين في حربها السياسية على إحراز «تفوق معلوماتي» على جميع دول العالم بشكل عام، وعلى وجه الخصوص على الدول الغربية. ولإحراز «تفوق معلوماتي» سريع وفاعل، يجب الاعتماد على عاملين رئيسيين: أولهما، توفير شبكة تقنية حديثة لجمع المعلومات ونقلها. وثانيهما، تقويض جودة مصادر تلك المعلومات، إما بابطاء نشر المعلومات التي تم جمعها، أو بتشويه تلك المعلومات بإدخال بيانات غير صحيحة، أو غير دقيقة في طياتها. ومرة أخرى، بالنظر لواقعنا اليومي المرير، نجد أن ذلك السيناريو يتكرر معنا جميعاً. فمن يسعى للسلطة، يكون ذلك بشكل خفي تماماً، وفي الوقت نفسه ينصب من نفسه مصدر المعلومات المتنقل، والموثوق منه في أجواء بيئة العمل. وإذا حدث وأن ظهرت معلومة مهمة قد ترجح كفة من يتم السعي لتقويضه، نجد أن مصدر المعلومات المتنقل هذا يبدأ في تشويه تلك المعلومة بشتى الوسائل، أو محاولة إخفائها وطمسها لأطول فترة ممكنة.
لكن أهم ما يمييز الصين على الإطلاق عن باقي دول العالم، هو إيمانها الشديد بالعنصر البشري، ومحاولتها دوماً ألا تغفل أهميته. فضمان هيمنة المعلومات، يجب أن يضع دوماً العنصر البشري الذي يتلقى المعلومة ويتفاعل معها نصب الأعين، خاصة إذا كان ينتمي لطبقة صناع القرار، سواء أكانوا من العسكريين أو المدنيين؛ فالمدنيون هم القوة التي تشكل الرأي العام. وبناء على ذلك، تنشر الصين المعلومات بالطرق الحديثة، بما في ذلك الأشكال المختلفة من وسائل الإعلام، لضمان أن يقوم الفرد العادي باستخدام هذه القوة لردع المعارضين، وإكراههم على تنفيذ رغبات الأمة بشكل فعال.
ومن ناحية أخرى، علمت الصين أن شبكات التواصل الاجتماعي ما هي إلا خطر داهم يهدد كيان الأمة، فتوافر المعلومات بشكل عشوائي عواقبه مذمومة أكثر منها محمودة. فمن السهل جداً تقويض جودة المعلومات المبثوثة على شبكات التواصل الاجتماعي. ومن خلال شبكات التواصل الاجتماعي يمكن شن حروب نفسية من قبل الأعداء بكل سهولة، وكذلك، تفويض عزيمة الشباب، وجميع من يدمنون استخدامها. ومن ثم، لسوف يتم تقويض الجهود المبذولة للبناء والرقي، بالانصراف بجعل شبكات التواصل الاجتماعي هي الشغل الشاغل، على الرغم من أنها وسيلة جمع معلومات مضمونة، لكن في كل الظروف، يجب استخدامها بكل حِرْفية.
فكما نعلم، جعل العصر الحديث الإنسان عالقاً في حالة من اللاسلم، واللاحرب على حد سواء. وبناء على ذلك، يجب أن نعي أن الحروب الحالية هي حروب من خلال وسيط. فلو تم استخدام الأفيون في العصر القديم لتدمير الصين، فأفيون العصر الحديث الذي أوصل شعوب العالم لحالة من الإدمان هو: شبكات التواصل الاجتماعي. وقد يستغرب البعض لمعرفة أن معظم رجال الأعمال البارزين، والساسة، وولاة الأمور لا يجنحون لاستخدام هاتف نقال ذكي، أو قد لا يستخدمونه على الإطلاق، وذلك من خلال تجربتي الشخصية مع تلك الفئات. وأحبذ القول إنهم على علم بمضار إدمانها، أو راغبون عن استخدامها لأنها أداة تعقب، ونهب الوقت والجهود من الدرجة الأولى. لكن أيضاً لا يمكن منع الإنسان من ممارسة حقه في الانفتاح على العالم الحديث من خلال شبكات التواصل الاجتماعي.
وبعيداً عن الخوض في الأمور السياسية، والجدليات المعلوماتية، ألا نجد مما تم استعراضه مسبقاً، أن طريق الفوز سانح للجميع شريطة الترتيب له؟ وأن التجربة الصينية يمكن تطبيقها على حياة الأفراد لضمان نجاحهم؟ أعلم أنه ليس من السهل تطبيق جميع تلك الأسس، لتباين ظروف كل فرد وكل مجتمع عن الآخر. لكن من الواجب معرفة أن التطبيق ليس بالمستحيل، ويجب أن ينفذ على مراحل بخطى، بطيئة فاعلة للتربع على عرش الفوز بلا منافس أو منازع. وهذا هو خيارك، وتلك هي حياتك، إما أن ترتب لها جيداً، أو تجعلها تفيض بالعبثية، لتشكو في ما بعد من الوقوع الدائم في عرين الخاسرين. فكما يؤكد الكاتب الأمريكي الشهير تيودور سوس جيزيل المشهور باسم دكتور سوس Dr. Seuss : «يوجد عقل في رأسك، وقدم في حذائك. ولك القدرة على اختيار وجهتك، فاختيارك وليد قرارك أنت، فأنت من يسبر واقعك، وأنت من ستقرر أينما تذهب».