ثقافة وفنسلايدر

د. وليد سيف الناقد و السيناريست..شهادتى وجانب من ذكرياتى مع النجم الراحل الكبير فاروق الفيشاوى

عندما التقيت بفاروق الفيشاوى فى مطلع التسعينات كان أحد نجوم السينما الراسخين، وكنت فى موقف لا أحسد عليه، فالمهمة هى إقناعه بأن يقبل دورا صغيرا صامتا فى فيلم الجراج لا يتجاوز عدد مشاهده الثمانية، وكان هناك طلبا ملحا من قبل التوزيع على تواجد إسمه دعما لإسم الفنانة الكبيرة نجلاء فتحى، أرسلنا له السيناريو، وذهبت بعدها بأيام لمقابلته وأنا أتوقع منه الرفض، لنعود من جديد لنبحث مع التوزيع عن وسيلة جديدة لتسويق الفيلم الذى تعطل تصويره لشهور طوال، ولكنه فاجأنى بموافقته بحماس شديد ودون قيد أو شرط بل أنه قال لى أن الشخصية فرصة كبيرة بالنسبة له بل وتحد كبير أن يؤدى دورا صامتا، بل وأن يكون ظهوره غالبا فى عمق الكادر كروح محبة لفاطمة عاملة الجراج وأولادها.
فى فترة الإعداد كان فاروق فى منتهى الحماس منصتا باهتمام لتوجيهات المخرج علاء كريم والإنصياع تماما لتعليماته، فتوجه على الفور لتعلم لغة الإشارة عن طريق أحد خبراء الصم والبكم، ثم لطبيب عيون ليصنع له عينا زجاجية إمعانا فى إعاقة الشخصية، ولتشكل صعوبة جديدة للممثل الذى يفقد فرصة التعبير بالصوت والعين فى آن واحد، ولتتقلص كل الإمكانيات الأدائية فى التعبير الحركى فقط، وكان موقع التصوير فى جراج عمارة بالزمالك يأتى إليها فاروق من بداية اليوم وحتى آخره لا يصور خلالها سوى دقائق قليلة، ولكنه يعايش المكان ويمتزج بالأطفال ويمرح معهم، ويصبح هو عمهم عبد الله الأخرس سواء أمام الكاميرا أو خلفها، كما يراقب ويصاحب عمال الجراج الحقيقيين، يجالسهم ويأكل ويحتسى الشاى معهم ليستلهم منهم روح الشخصية وطبيعتها.
هذه المعايشة الكاملة والتركيز فى الأداء والمقدرة العالية فى التعبير هى التى جعلت الفيشاوى مؤثرا جدا فى الفيلم وشريكا كاملا فى البطولة، بل ان المشاهد كان يخرج من فيلم الجراج دون أن تخرج من ذاكرته شخصية عبد الله الأخرس، وخاصة مع أدائه المذهل فى مشهد النهاية وهو يتألم لموت فاطمة ويسعى للإعلان عنه وهو يدير لمبات الانتظار فى السيارات ويطلق كلاكساتها ويتقلب فوقها ألما وحزنا وغضبا لينتزع تصفيق الجماهير فى كل الحفلات وليقتنص العديد من الجوائز محليا ودوليا عن هذا الدور القصير.
بعدها بشهور قليلة كان لى لقاء آخر مع الفيشاوى فى فيلم كوميدى أكشن بعنوان تعالب أرانب، وقبل فاروق الدور فى حماس أيضا، واندهش هو وقتها من أن كاتب الجراج المفرط فى مأساويته هو نفسه كاتب تعالب أرانب المفرط فى هزليته، وقال لى فى مداعبة إذا كنت أنت قادر على كتابة دراما مختلفة بهذا الشكل فأنا أيضا قادر على أداء هذه الشخصيات المختلفة المتباعدة، كانت البطولة الحقيقية لحسن حسنى وكان الفيشاوى واحدا من تشكيل عصابى ثلاثى يظهرون دائما معا، ولا يوازى دور أى منهم المساحة التى يلعبها حسن حسنى، ولكن فاروق لم يبد أى ملاحظات على السيناريو، على عكس أحد زملائه الأقل منه شهرة وموهبة الذى كان يلح فى إجراء تغييرات للتقليص من مساحة دور حسن حسنى لحساب دوره، كان فاروق يركز فى الشخصية التى يلعبها فقط ولا يتدخل فى أى شىء، وعلى الرغم من إجهاده صحيا فى ذلك الوقت إلا أنه كان يتحول أمام الكامير إلى طاقة صوتية وحركية هائلة للتعبير عن شخصية حمادة المجرم النصاب العنيف.
فى الحقيقة إمتلك الفيشاوى موهبة وجاذبية وطاقة هائلة، برزت منذ بدايات ظهوره وأحالته فى غضون نصف عقد من الأدوار الصغيرة فى منتصف السبعينات إلى البطولة والنجومية فى مطلع الثمانينات، حيث لفت الأنظار إليه سينمائيا بأدائه المميز لشخصية الضابط أمام عادل إمام فى المشبوه وخاصة حين التمعت عينيه بنظرة تعاطف صامتة ومعبرة مع المجرم التائب، ثم تلفزيونيا فى دور الطبيب الاستثمارى والإبن الجاحد فى أبنائى الأعزاء شكرا، والشاب الخائن المتسلق الانتهازى فى ليلة القبض على فاطمة، كما كان نجاحه فى فيلم الباطنية دفعة قوية لانطلاقة كبيرة جعلته أحد أوراق السينما الرابحة، وعززها بقدراته المتميزة فى أداء الشخصيات المركبة والمختلفة فى مقدرة إبداعية شديدة الاتساع.
بل إنه استطاع أن يصبغ أدواره بروح الشخصية بعيدا عن مظهرها ووظيفتها، فالظابط الجاد الذى يسعى للانتقام من اللص الذى سرق مسدسه فى المشبوه يختلف تماما عن الضابط المثقل بالهموم المتورط فى صحبة مجرم عتيد فى حنفى الأبهه، وعلى الرغم من وسامته الشديدة إلا أنه لم يتوقف عند حدود الأدوار العاطفية والرومانسية التى أداها بامتياز فى أرجوك إعطنى هذا الدواء وعذاب الحب ورجل فى فخ النساء، ولكنه تنوع فى أدواره بصورة نادرة، فهو البائع الجوال المهموم بالرزق فى شارع السد وهو القرداتى الذى يستغل قرده فى أعمال السرقة، وهو المتخلف عقليا الذى يتزوج من امرأة جميلة فى ديك البرابر.، وهو الطالب الأبدى المشاغب فى يا نحب يا نقب.
وهو فوق كل هذا على الزيبق الذى يتلون ويتنكر فى العديد من الوجوه والشخصيات لينتقم من سلطة غاشمة وفاسدة، وفى كل الأحوال كان الفيشاوى قادرا عل الإقناع ومتمكنا من الشخصية التى يقدمها ليفرض على المشاهد تصديقها والاقتناع بكل ما تفعله.
دعم الفيشاوى باسمه ونجوميته وقدراته الفنية العديد من مخرجينا الكبار فى مستهل طريقهم، فهو بطل فيلم رضوان الكاشف الأول ليه يا بنفسج، ونفس الشىء فعله مع اسماعيل مراد فى بداية مشواره فى أرض أرض، وعندما قرر أن يتوجه للإنتاج السينمائى كان فيلمه مشوار عمر من إخراج محمد خان وقدم معه ممدوح عبد العليم شريكا فى البطولة، بل وفى الدرو الأكثر جاذبية والمثير للتعاطف أكثر من الشخصية التى لعبها هو.
لم يشكل تحول فاروق الفيشاوى عمريا من الشاب الصغير إلى الرجل الناضج أى مشكلة له، فهو ليس من طراز الممثلين الذين اعتمدوا على شبابهم ووسامتهم فى البداية بل اهتم أكثر بنوعية الأدوار واختلافها وقوة الموضوعات، لهذا لا تكاد تلحظ أى فترة للتوقف أو الغياب فى مسيرة فاروق التى امتدت لما يقرب من أربعين سنة قدم خلالها مايزيد عن مائة وثلاثين فيلم فضلا عن المسلسلات والمسرحيات.
فى مرحلة النضج واصل الفيشاوى تقديمه للشخصيات المميزة والمركبة ومنها راقص التنورة فى ألوان السما السابعة والجزار المستغل فى الشرف والباحث الإسرائيلى فى فتاة من اسرائيل، كما أنه لم يتوان عن دعم أجيال جديدة من الفنانين والسينمائيين ولو بظهوره فى دور صغير كضيف شرف مثلما فعل فى فيلم كدبة كل يوم.
رغم ظروفه الصحية الصعبة فى سنواته الأخيرة واصل الفيشاوى مسيرته الفنية سينمائيا ومسرحيا وتليفزيونيا، وكان يقف يوميا على خشبة المسرح القومى ليؤدى دوره فى مسرحية الملك لير مشاركا صديقه وزميل رحلة كفاحه يحى الفخرانى.
جقق الفيشاوى كل هذه النجاحات بفضل موهبته وثقافته وعلى الرغم من أن حياته الشخصية مرت بتقلبات كثيرة فتزوج عدة مرات وانفصل عن شريكة رحلة كفاحه وأم اولاده سمية الالفى التى ارتبط اسمه بها لعدة سنوات، ولكن ظلت الصداقة بينهما قائمة رغم فشل كل محاولات الأصدقاء فى إعادة الحياة الزوجية بينهما، وعلى المستوى الإنسانى تميز الفيشاوى بشجاعة أدبية نادرة حيث اعترف كثيرا بأنه قدم أعمالا لم يرض عنها، كما صارح جمهوره بشجاعة بأنه يعالج من الإدمان، وعبرت آرائه الفنية والسياسية عن قناعاته الشخصية دون حسابات، فلا تملك إلا أن تحترمها حتى لو اختلفت معها.
برحيل الفيشاوى عن عالمنا فقد الفن المصرى بل والعالم العرب أجمع واحدا من أكثر فنانيه موهبة وثقافة ووعيا وشجاعة، ولكن ستظل أدواره المتميزة خالدة ومعبرة عن قدراته الخاصة ووعيه الفنى الشديد وعلامات مهمة وملهمة فى مسار فن التمثيل السينمائى فى بلادنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المثمر
زر الذهاب إلى الأعلى