ثقافة وفنجديد24سلايدر

علي المسعود: فيلم “الموت والعذراء” محاكمة الضحية للجلاد بعد زوال سلطته!!

علي المسعود
ما الذي يمكن أن يحدث عندما يقع الجلاد، بعد زوال سطوته، في قبضة الضحية؟، تلك الضحية التي تمَّ تعذيبُها واغتصابها على وقع الرباعية الوترية للنمساوي شوبرت، والتي أسماها ” الموت والعذراء “، وكان الجلاد يتلذَّذ على وقع الموسيقى التي يعشقها، وظلت الضحية على مدى خمسة عشر عاماً تعيش في اضطرابها وعذاباتها ورعبها، حتى بعد تنحية الديكتاتور وحاشيته، ومجيء حكومة جديدة سعت إلى فتح التحقيقات في قضايا الذين لقوا حتفهم جراء التعذيب، وإن أغفلت قضايا الذين تم تعذيبهم ونجوا بحياتهم. لكن الضحية ظلت مصرة على الكلام، لأن التعذيب إذا كان جريمة، فإن الصمت عليه جريمة أشَّد. ضمن هذه الأجواء تتمحور احداث المسرحية ” الموت والعذراء” للكاتب التشيلي” أرييل دروفمان.” التي تم تقديمها على مسرح برودواي عام 1992 وقام بترجمتها “علي كامل” ونشرت من قبل دار المدى في دمشق، وقدمت على مسرح القباني ، وقامت باداء دور البطولة فيه الممثلة الراحلة ” مي سكاف”، تجري أحداث المسرحية بعد انهيار ديكتاتورية بينوشيه في تشيلي، حين بدأت تتكشف قصص المفقودين واعمال التعذيب في السجون والمعتقلات.
باولينا بطلة المسرحية لا تزال تجر جراح السجن والتعذيب، بعد ان تعرضت للاغتصاب والتنكيل من قبل البوليس السري قبل 15 عاماً، حينما كانت طالبة في كلية الطب، حيث كان الاغتصاب والتعذيب يجري على إيقاع الرباعية الوترية “الموت والعذراء” لشوبرت، بمحض الصدفة تلتقي في بيتها على شاطئ البحر وجهاً إلى وجه بمن كان يشرف على تعذيبها واغتصابها في غرفة الاعتقال، لتستبدل الادوار بين الضحية والجلاد، ترجمت المسرحية إلى العديد من لغات العالم، وتم استعارة حبكتها لتخاطب اوضاع التعذيب والقتل والاضطهاد في مواقع كثيرة من العالم، الكاتب أرييل دورفمان كتب هذا العمل ضد من شردّوه؛ ومن خنقوا صوت الحرية في بلاده؛ وضد وحشية وبربرية الاستبداد في كل مكان. كان دورفمان يعمل -أيام حكومة الليندي الشعبية- أستاذًا محاضرا لمادة الأدب والنقد في جامعة تشيلي، ورُشح عام 1971 مستشارًا ثقافيًا ضمن هيئة المستشارين الخصوصيين للرئيس الليندي في قصر لامونيدا- القصر الرئاسي- يقول دورفمان في احدى مقابلاته الصحافية: كان عليّ أن أكون في قصر لامونيدا في ذلك اليوم الفاجع، كانت هناك قائمة بأسماء الأشخاص الذين ينبغي وجودهم في الأوقات الطارئة، وكان اسمي واحدًا من تلك الاسماء، الأسماء، لكن أحدًا لم يتصل بي ذلك اليوم، وتركوني أستمتع بنومي ذلك الصباح! لم أفهم السبب مطلقًا!!، بعد ثلاث سنوات، وبطريق الصدفة، قابلت الشخص الذي كان مسؤولًا عن تنظيم تلك القائمة آنذاك، واسمه فرناندو فلوريس، في ذلك اللقاء -فحسب- عرفت سر بقائي حيًا!!، أخبرني فرناندو أنه شطب اسمي من قائمة المناوبة في ذلك الصباح، وحين سألته عن السبب، صمت قليلًا وغار عميقًا، عميقًا، كما لو أنه أراد أن يسترجع تلك اللحظات المرعبة ثانيةً، أخيرًا، تطلع نحوي قائلًا : “حسنًا.
كان لا بد أن يبقى أحد ما حيًا، ليروي ما حدث”، إنه القدر اذن الذي تدخل في الأحداث على نحو ما؛ فأحال دورفمان الى راوي حكايات عن مجازر ووحشية نظام ديكتاتوري. ونفي الكاتب المسرحي من شيلي في عام 1973 أثناء الانقلاب الذي أطاح بالرئيس سلفادور أليندي. ترجع جذور مسرحية آرييل دورفمان ، التي أنتجت في برودواي الى عام 1992 ، وتحولت هذه المسرحية إلى فيلم سينمائي عام 1994، من إخراج رومان بولانسكي، ومن بطولة سيغورني ويفر، والممثل “بن كينغسلي”، وكذالك ستيوارت ويلسون، الفيلم الذي كتب له السيناريو كل من” دورفمان ورافائيل إيغليسياس وإخراج رومان بولانسكي ، أحداثه تقع في بلد غير مسمى في أمريكا الجنوبية بعد سقوط الدكتاتورية ، على الرغم من عدم تحديد اللغة المحددة للبلد ، فمن الواضح أنها تشيلي (البلد الأصلي لدورفمان) ، وفي فترة السبعينيات الذي لم يشير المخرج الى مكان وقوع احداثها وكأن المخرج اراد التأكيد على أن الاحداث ممكن وقوعها في بلد أي ديكتاتوري في العالم بعد سقوطه.
يفتتح الفيلم في مشهد حضور الزوجين ( بولينا ) وتقوم بالدور الممثلة” سيغورني ويفر” و(أسكوبار) ويقوم بالدور الممثل” وستيوارت ويلسون ” حفلا موسيقى وتعزف فية رباعية شوبرت الوترية ” الموت و العذراء” التي استوحى الكاتب عنوان المسرحية والفيلم منها والتي تحمل العنوان ذاته، وهي قصيدة مغناة من تأليف ماتياس كلاوديوس 1740-1815. أما الثيمة فقد استقاها من خبر، كان قد قرأه في صحيفة تشيلية، يحكي قصة رجل أنقذ حياة شخص انقلبت عربته في الطريق العام، وكادت تودي بحياته، وفي أثناء دعوة الرجل لذلك الغريب ضيفًا إلى منزله، تحدث المفاجئة المروعة تميز الزوجة نبرة ذلك الرجل الغريب الذي يتحدث مع زوجها، وتكتشف أنها نبرة الرجل الذي عذبها نفسه، واغتصبها في السجن قبل سنوات؛ إذ ذاك تقرر سجنه في المنزل، ومحاكمته، من خلال انتزاع اعترافه الكامل بارتكاب تلك الجريمة، ومن ثم تحكم عليه بالموت، تأمل دورفمان تلك الحادثة التي قرأها كخبر صحافي، وشعر أنها يمكن أن تكون نواة رواية دراماتيكية. بيد أنه كلما حاول أن يكتب على الورق بضع صفحات؛ لكي يغوص في موضوعه، كان يشعر بأن ثمة حلقة ما ضائعة، وثمة ما هو جوهري وضروري في الحكاية مفقود، لذا عدل عن مشروعه، واستغرق الأمر سبعة عشر عامًا الى أن عاد الى تشيلي مع عائلته، بعد سقوط نظام بينوشيت ، وهناك في زحمة الأحداث السياسية الجديدة والشائكة، بدأ يعثر على إجابات عن تلك الأسئلة التي كانت غائمة في رأسه، واستطاع أن يمسك بالخيط الذي قاده -في نهاية المطاف- إلى الطريقة التي ستروى بها تلك الحكاية، كانت تشيلي آنذاك تعيش حالة انتقالية؛ اذ على الرغم من سقوط الديكتاتور وانتخاب سلطة وطنية جديدة، إلاّ أن الاجراءات الموقتة أبقت على كثير من رموز النظام السابق في المفاصل المختلفة للدولة، وظل العديد من العسكر ورجال الأمن والمخابرات طليقين من دون عقاب؛ الأمر الذي أثار ضغينة بعض الناس، وغيظ بعضهم الآخر، ولا سيما أولئك الذين عانوا من النظام القديم، وكان يسكنهم الخوف من عودة الدكتاتورية، وفي الوقت نفسه، كانت السلطة الجديدة تدرك أن الوضع غير مستقر، ومن شأن أي اجراءات راديكالية أن تفجر حربا أهلية في البلاد؛ لذلك أرادت أن تعالج الأوضاع بشكل تدريجي وببرنامج اصلاحي براغماتي، للانتقال بالبلد نحو الديمقراطية، مع تجنب الاهتزازات العنيفة التي قد تدخل البلاد في حالة من الفوضى وتجدد الإرهاب. ويفتتح الفيلم حكايته، في منزل هادئ في مدينة ساحلية تعيش “باولينا” مع زوجها رجل القانون “جيراردو” “تعرضت باولينا في فترة الحكم الديكتاتوري للاغتصاب بواسطة الطبيب “ميراندا” ويقوم بالدور (بن كنسغلي) الذي كان الجلادون يستعينون به ليخبرهم بالحدود التي يتوقفون عندها حتى لا يفقد الضحية حياته أثناء التعذيب، وفي المقابل يختار ضحاياه من الفتيات ليتولى تعذيبهن بالاغتصاب، وبسبب الواقعة التي تعرضت لها، هجرت “باولينا” دراستها في كلية الطب، وظلت على مدى خمسة عشر عاماً في معاناة نفسية رهيبة، وإصرار على حكي ما حدث لها.
كانت باولينا في تلك الليلة الممطرة تنتظر عودة زوجها” جيراردو أسكوبار”، الذي دعي إلى اجتماع في العاصمة، بعد ان تم تعيين جيراردو أسكوبار، وهو المحامي اليساري ، لرئاسة لجنة الرئيس الجديدة المعنية بانتهاكات حقوق الإنسان التي وقعت في ظل النظام الفاشي المخلوع (لم تكتم باولينا مخاوفها وشكوكها في جدوى قبول زوجها للعمل في هذه اللجنة)، تتعرض سيارة زوجها لعطل أثناء عودته إلى منزله. يسوق القدر إليه الطبيب “ميراندا” الذي يقوم بتوصيله إلى بيته، وعندما يسمع خبراً في الإذاعة عن تعيين “جيراردو” عضواً في اللجنة التي شكَّلها الرئيس، الذي تولى الحكم بعد سقوط الديكتاتور بينوشيه، للتحقيق في جرائم التعذيب التي أفضت إلى الموت،يعود إليه ليهنئه بالمنصب الجديد ويجلب له إطار جديد لسيارته، يصر “جيراردو” أن يبيت “ميراندا” في بيته، وخلال حديث الزوج مع الضيف (الطبيب ميرندا)، تستمتع بولينا من غرفة نومها الى الصوت فتصدم بان الضيف هو جلادها ، وهو من أشرف على تعذيبها ، عرفته زوجة أسكوبار المحامية بولينا بأنه الرجل الذي عذبها واغتصبها مرارًا بعدـ أعتقالها، رغم ان بولينا كانت معصوبة العينين أثناء إذلالها ، لكنها تستطيع تحديد هوية جلادها ومغتصبها الطبيب ميراندا بشكل مؤكد وعلى يقين من خلال صوته و من طريقة خطابه ورائحة جسده ، والأهم من ذلك كله شغفه بالرباعية الموسيقية “الموت والعذراء” لشوبرت ، والتي يحب الاستماع اليها. أثناء تعذيبها ، لكن الزوجة حين تكتشف أن هذا الطبيب هو مغتصبها فهذا الزائر يعيدها إلى أيام الرعب في السجن، بنبرة صوته، وأسلوبه في الكلام، وضحكته، وترديده لاسم نيتشه، وهو ليس ضيفاً عزيزاً أو ثقيلاً، إنه صيد ثمين، إنه الجلاد جاء بنفسه إلى القصاص، وعلى إيقاع هدير الأمواج في البحر الهائج، تسللت باولينا، بعد أن نام الزائر في غرفة منفردة، وركبت سيارة الطبيب ميرندا والذي كان قد ترك مفاتيح السيارة فيها وهربت من البيت، وعندالبحث في داخل السيارة ، وجدت فيها شريط كاسيت مسجلاً عليه موسيقى” شوبرت” و تحمل عنوان”الموت والعذراء”.
وبدأت في رسم مخطط خاص بالانتقام، وانتزاع اعترافاً منه بجريمته، فقررت العودة الى البيت و الانتقام من الطبيب ميرندا بعد ان تخلصت من سيارته برميها في منحدر جبلي قريب من المنزل ، عادت بولينا الى البيت ، وجدته نائما على الاريكة ، فضربته بعقب المسدس على رأسه، فأغمي عليه، وجرجرته على الأرض، وتقييده على الكرسي، وتبدأ في محاكمته وانتزاع اعترافاته، وسط اعتراض الزوج الذي يتعامل مع زوجته باعتبارها تمارس فعلا لاإنساني و لاإـخلاقي ، (على اساس ان المتهم برئ حتى تثبت إدانته)!، ترى هل تقول بولينا الحقيقة ؟، هل يجب الوثوق بالذاكرة البشرية ؟ وألاهم هو هل لنا الحق في تعذيب جلادنا؟ ، وهل “العين بالعين” فلسفة لها ما يبررها؟، هذه بعض من التساؤلات والتي هي من المعضلات الأخلاقية التي يقف زوج بولينا موقف المتفرج كما المحلفين أو ربما الشاهد على الاعتراف المنزوع من فم الجلاد، ويحتدم الصراع بين الشخصيات الثلاث، التي تجسد الحكاية ،وفي الخطوات اللاحقة كانت تصطدم مع زوجهاـ حول نوعية الانتقام في مجتمع يؤمن بالعدالة ولكنه يميل إلى التسويات والحلول الوسطية، وتمضي المسرحية إلى نهايتها المفتوحة. لكن المؤلف كان حريصاً على الحقيقة المرة:”إن الكثيرين الذين تعرضوا للتعذيب لديهم قصصهم المكبوتة، تلك التي لم تحك بعد، أعرف أن التعذيب هو الجريمة الأولى، ولكن المؤكد أن الجريمة الأكثر بشاعة هي الصمت.
بعد انهيار ديكتاتورية بينوشيه في تشيلي برزت في مشهد الحياة اليومية مشكلات ساخنة، تتعلق بالمفقودين وضحايا التعذيب في السجون والمعتقلات التي انفتحت أبوابها، وانكشف الغطاء عن جرائمها، التعذيب هو التعذيب، مهما كانت أشكاله وأدواته، بالسياط أو الصدمات الكهربائية، أو أعقاب السجائر، أو الاغتصاب، وثمة ابتكارات لا نعرفها، ولكن التعذيب في مسرحية”الموت والعذراء”كان الاغتصاب على إيقاع أفضل الأعمال الموسيقية لشوبرت – الرباعية الوترية”الموت والعذراء”، وليس غريباً أن يكون المشرف على عمليات الاغتصاب طبيباً. إن سقوط الأنظمة الديكتاتورية يفتح الباب للكثير من القصص عن الظلم و الفساد و التعذيب في السجون و الاعتداء على الحريات الشخصية و كذالك الخراب الاجتماعي و الاقتصادي والذي أثاره تكون غالبا من الصعوبة إزالتها أونسيانها.
هذا الفيلم على بساطة فكرته، هوعرض تمثيلي بالدرجة الأولى يقوم باداءه ثلاث ممثلين فقط، نحن أمام سيدة تمَّ تعذيبها بالاغتصاب ما سبَّب لها عقدة نفسية ظلت ملازمة لها على مدى خمسة عشر عاماً، وزوج يعمل محامياً وطبيعة عمله في لجنة التحقيق تقتصر فقط على جرائم التعذيب التي أفضت إلى الموت، وطبيب ارتكب جرائم اغتصاب ووقع في يد إحدى ضحاياه، وعليه أن ينكر تماماً فعلته وإلا تعرَّض للقتل. وفي النهاية يعترف الطبيب بانه هو الجلاد الذي قام بجرائمة ولكن الاثينن بولينا وزوجها لم يجرؤا على الانتقام لانهم انقياء، وينتهي الفيلم مثلما كانت بدايته عند مشهد الحفل الموسيقى والفرقة الموسيقية تعزف رباعية شوبيرت ( الموت و العذراء) التي صارت دواء بعد إن كانت لعنة و كابوس لأيام موجعة، وتدور الكاميرا لتركز على بولينا وهي تضغط بقوة على يد زوجها اسكوبار وهما حاضرين هذا الحفل، بعدها يصدم المخرج العبقري ( رومان بولانسكي) المتفرج عند دوران الكاميرا لتكشف لنا ان الطبيب الجلاد ميرندا هو الاخر حاضرا في نفس العرض الموسيقى مع عائلته.
عندما قرر الكاتب دورفمان أن يكتب مسرحية بدلًا من الرواية، يكثّف فيها ذذلك الحوار الساخن، والأسئلة الموجعة التي تدور في أذهان التشيليين وكان موضوع “الخوف” (الذي يجب تجاوزه) أحد هواجس الكاتب دورفمان ووكذالك موضوع “النسيان” هو أيضًا هاجسًا آخر، له وجوهه المتعددة لدى الكاتب؛ إذ كيف يمكن للناس نسيان أوجاعهم وخوفهم والعنف ووحشية التعذيب النفسي والجسدي الذي نزل بهم، والتسامح والالتفات الى بناء المستقبل، دون تحقيق العدالة والقصاص ممّن سبب لهم كل تلك الآلام؟، مثل تلك الأسئلة، كانت تطرحها شخصية الضحية “بأولينا”، لكن الوجه الآخر للموضوع كان يأتي على لسان شخصية المحامي “جيراردو”، زوجها، الذي عُين عضوًا في لجنة التحقيق، فهو وأمثاله كانوا يشعرون أن استعادة الماضي تحطيم لهم، وكانوا يقولون: ثمة مستقبل ينتظرنا، دعونا نبدأ من جديد، ونطوي صفحة الماضي، بيد أن أولئك الذين ذاقوا جور ومرارة الماضي، وخرجوا من تلك المحرقة مشوهين ومشوشين، كيف لهم أن يقبلوا النسيان، وهم يسيرون على رصيف واحد (جنبًا الى جنب) مع جلاديهم القدامى؟!. تلك الأسئلة الإشكالية والدرامية بامتياز، هي ما طرحه فيلم” الموت والعذراء”، وهي نفسها الأسئلة الإشكالية التي تواجه كل الشعوب التي تريد الخروج من عنق الزجاجة، وترمّم جراحها بعد سقوط الدكتاتورية والعبور الى نظام ديمقراطي، اذ لا يمكن إنزال العقاب بكل مرتكبي الجرائم؛ لأن ذلك سيدخل البلاد في حرب أهلية، وفي الوقت ذاته لا يمكن للضحايا أن تتنازل عن حقوقها، وتتناسى ما حل بها من آلام، فما هو الحل إذن ؟ الحل بأن يعتذر المجرم –على الأقل- عما ارتكب من جرائم، الأمر الذي قد يقنع الضحية بالتسامح والقبول بفتح صفحة جديدة، دون أن يعني ذلك نسيان الماضي، فالمطلوب وضع أسس جديدة متينة لكيلا يتكرر الماضي بشكل أوبآخر، وإلا سوف تستمر دوامة العنف الى ما لا نهاية.
الممثلة” سيغورني ويفر” ممثلة صعبة ومتمكنة ، كما هو متوقع لها في أداء دورها ، كانت صارمة و ذات كفاءة، لكنها ليست مقنعة تمامًا، ربما تكون لهجتها الأمريكية ونمط خطابها والحديث الذي يمنعها من الوصول إلى عمق أكبر، في حين يقدم ستيوارت ويلسون بدوره ( اسكوبار ) ، الذي يُعرف في الغالب حتى الآن بعمله المسرحي ، أداءً استثنائياً حيث إنشغل الزوج بين الحب غير المشروط لزوجته وقضاء العدالة بطريقة أكثر تعاطفًا ـ أما الممثل المتميز (بن كينغسلي) الذي يلعب دور الطبيب ( ميرندا ) ،فقد كان دوره صعبا حين يصر على إنكار التهمة في البداية ثم ينهار ويعترف بفعلته و جرائمه تجاه المعتقلين و المعتقلات في مشهد قوي وجميل التنفيذ ، وحين يكون أعترافه إنحيازا واضحا لصالح بولينا.
فيلم ( الموت والعذراء) دراما موجعة ومظلمة، توافرت لها عناصر جمالية متقنة، أخرجتها في صورة بهية وممتعة، فإذا كان التمثيل لعب الدور الأكبر في هذه المتعة، فإن العناصر الأخرى من الاداء الرفيع للممثلين و أدارتهم من قبل مخرج عبقري، وكذالك إستخدام الإضاءة بشكل متقن ، تلك عناصر كانت مساعدة في الابهار وجاءت لتعكس لحظات التوتر التي سادت أجواء الفيلم، وتشير أيضاً إلى وعي المخرج الى طيبعة رسالة الكاتب (دورفمان ) وردود أفعال شخصياته وعلى وقع الرباعية الوترية “العذراء والموت “. إنه في الواقع فيلم غامض إلى حد ما ، حيث يتم ترك الجمهور حقًا للدفاع عن أنفسهم مع مجموعة من ألاسئلة، هل هذا الرجل يكذب؟ أم هل قام بالفعل بتعذيب بولينا وعدد لا يحصى من الآخرين؟ كما أنه يترك المرء يتساءل عما إذا كان يمكن للناس أن يتغيروا، وكيف يتفاعل الناس عند وضعهم في مثل هذه السلطة. أجد أفلامًا مثيرة جدًا للاهتمام عندما يترك الجمهور يفكر في الأشياء ويتساءل، وبالتأكيد هذا يترك المشاهد كثيرًا للتفكير فيه، إنها أفكار تدور في فلك الشعور بالذنب والمسؤولية .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المثمر
زر الذهاب إلى الأعلى